مؤاخذة الخلف بما فعله السلف
مؤاخذة الخلف بما فعله السلف
تدلّ الآيات الشريفة على ذمّ أهل الكتاب و تأنيبهم و التشنيع على اليهود منهم خاصّة لكثرة جرائمهم و فظاعة مظالمهم كما عدّدها عزّ و جلّ عليهم، و من المعلوم أنّ كثيرا من تلك الجرائم لم تصدر من اليهود الّذين عاصروا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بل صدرت من أسلافهم الّذين سألوا موسى عليه السّلام: أرنا اللّه جهرة، و هم الّذين أخذتهم الصاعقة بظلمهم، و هم الّذين عبدوا العجل، و هم الّذين قتلوا الأنبياء و كفروا بهم، و هم الّذين بهتوا على مريم عليها السّلام و نسبوا إليها أعظم فرية مع علمهم بطهارتها و تفضيلها على نساء العالمين، و هم الذين ادّعوا قتل المسيح عيسى بن مريم و غير ذلك ممّا سجّله عزّ و جلّ عليهم من أنواع الكفر و الظلم
ومؤاخذة الخلف بما فعله السلف أمر مرفوض في الشرائع الإلهيّة، لا سيما شريعة الإسلام فقد قال سبحانه و تعالى: وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [سورة فاطر، الآية: 18]
فلا بدّ من توجيه ذلك بأحد وجهين على سبيل منع الخلو
أحدهما: أن يكون الخلف قد رضي بما فعله السلف و اتّبع سيرتهم كما حكي عزّ و جلّ عن أقوام آخرين، قال تعالى: بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ سورة الزخرف، الآية: 22]
و كذلك قال سبحانه و تعالى: إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ [سورة الزخرف، الآية: 23]، و تصل هذه المتابعة المذمومة إلى مرحلة تسمّى بعبادة السلف، فتستولي على جميع مشاعرهم فلم تنفعهم هداية المهتدين و لا موعظة الواعظين و لا حجج المحتجّين
ولم يصل الإنسان الى هذه المرحلة من عبادة السلف إلّا بعد طي مراحل متعدّدة لأنّ الإنسان كائن إرادي أخلاقي حساس مختار، فلا تصدر منه الأفعال عفوا من دون فكر و روية بخلاف غيره من الحيوانات الّتي يصدر منها كثير من الأفعال بالمتابعة فقط، فإذا وصل الإنسان الى هذه الحالة وصار كغيره من الحيوانات، فلا بدّ أن يكون له أسباب عديدة قد ذكرها العلماء في مواضع متفرّقة من العلوم الإسلاميّة- كعلم الأخلاق، و علم السير و السلوك، و علم الأديان و لعلّ قوله تعالى يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ إشارة الى هذا الوجه، فإن الخلف اتّبعوا سيرة السلف في السؤال عن امور من الأنبياء تكشف عن كفرهم و نقضهم للمواثيق
ثانيهما: أنّ كثرة المعاصي الّتي صدرت من السلف و عظمتها كان لها الأثر الشديد في نفوسهم، بحيث سلبت منهم كلّ سبل الهداية كما يستفاد من قوله تعالى بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ، و لم تقتصر تلك الآثار عليهم فقط، بل تأثّرت بها الأجيال الّتي من بعدهم، فإنّ للذنوب والآثام آثارا واقعيّة لا بدّ من تحقّقها و تأثّر النفوس بها، ولا يمكن التخلّف عن ذلك كما ذكرنا في قوله تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [سورة النساء، الآية: 123]، و هذا ليس من باب الجزاء حتّى يقال إنّه يخالف قوله تعالى: وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [سورة الأنعام، الآية: 164]، بل هي حقيقة واقعيّة لا دخل للاختيار فيها، إلّا ما اختاره الشخص من السبب و المؤثّر، كما هو شأن سائر الحقائق الواقعيّة، فإنّ السمّ لا بدّ من أن يؤثّر في من يشربه، و لا دخل للاختيار فيه إلّا بالمعنى المعروف من أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار
و يمكن أن يستشهد لهذا الوجه بآيات المباركة كثيرة
منها: قوله تعالى حكاية عن نوح عليه السّلام: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَ لا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً [سورة نوح، الآية: 26- 27]، و لعلّ قوله تعالى: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ إشارة الى هذا الوجه، كما أنّ العلم الحديث كشف عن وراثة بعض الصفات عن الأسلاف.
المصدر : تفسير مواهب الرحمن