الإيمان بين الثابت والمتزلزل وصراع الموقف بين الحقّ والباطل..
الإيمان بين الثابت والمتزلزل وصراع الموقف بين الحقّ والباطل..
القضية في جوهر الإنسان، وفي صدقه في موقفه، تنطلق من خلال التحدّيات.. لأنَّ الدنيا إذا كانت مقبلة على الإنسان، ولم تكن هناك أيّة مشكلة تواجهه في ماله أو أهله أو نفسه، فإنّه يبقى على الخطّ، ولكن التحدّي الكبير لإيمانه هو فيما إذا واجهته مشكلة يقف فيها بين خيارين: خيار التزام إيمانه، وخيار التزام أطماعه وشهواته
إنَّ السيرة تتحدّث ـــ مثلاً ـــ أنّه قد بايع مسلم بن عقيل، رسول الحسين (عليه السلام)، ما يقارب ثمانية عشر ألفاً، أو يزيدون، وفيهم الذين كتبوا للإمام الحسين (عليه السلام) بأن يقبل عليهم، وأنّه إنّما يقبل على "جنود له مجنَّدة".. ومرَّت الأيام، حتّى إذا جاء عبيد الله بن زياد، بدأت المسألة تأخذ منحىً آخر.
هذا نموذج من الناس، الذين يتحمَّسون، وينفعلون، ويطلقون الشعارات والهتافات، ويقسمون الأيمان المغلظة بالبيعة، حتّى إذا جاءهم التحدّي نكصوا على أعقابهم وتراجعوا.. ولا أعتقد أنّ هذا النموذج غريبٌ عنّا، في كثير من الحالات.
فالفرزدق الشاعر يصوِّر أهل الكوفة بعد هذه التجربة للحسين (عليه السلام)، حين سأله (عليه السلام): "أخبرني عن الناس خلفك.. فقال له: "قلوب الناس معك وأسيافهم عليك...
يعني أنّ العاطفة بقيت في قلوب الناس للحسين (عليه السلام)، وكانت متجذّرة، ولكنَّ مصالحهم وأطماعهم كانت أقوى من عاطفتهم وحبّهم له.
فالإنسان قد يحمل في قلبه حبّاً للحقّ وأهله، ولكنّه ليس مستعدّاً أن يضحّي في سبيل الحقّ وأهله إذا اصطدمت مصالحه وأطماعه مع الحقّ. وهذا هو الذي رصده الحسين (عليه السلام) في قوله المأثور عنه: "إنَّ الناس عبيدُ الدُّنيا، والدين لعقٌ على ألسنتهم، يحوطونه ما درّت معائشهم فإذا مُحِّصوا بالبلاء قلَّ الديَّانون وهو (عليه السلام) يصوِّر مسألة الدين كأنّه شيء من العسل في فم الإنسان، وهو يديره ما درَّ اللُّعاب فيه وأحسَّ بحلاوته، فإذا انتهى طعم العسل، فإنَّ المسألة تنتهي عنده..
وهذا ما يتناوله الشاعر المتنبّي، وهو يصوِّر الفرق بين مَن يعيش المسألة عمقاً، وبين مَن يعيشها شكلاً فيقول
إذا اشتبكت دموع في خدودٍ تبيَّن مَن بكى ممَّن تَباكى
والله سبحانه وتعالى قوله الفصل، قبل كلّ قول: (الم*أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ*وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)
فإنَّ الله سبحانه لا يكتفي من الناس بالإيمان الساذج، بل إنّه يبتلي الناس ليظهر الصادق من الكاذب، ولذلك، فنموذج أهل الكوفة، لم تتحوّل العاطفة عندهم إلى موقف في الاتجاه الصحيح، بل بقيت في نفوسهم مجرَّد حالة شعورية، تقدَّمت عليها مصالحهم لتحرّك مواقفهم في الاتجاه المضادّ للعاطفة
لذلك ـــ ونحن في مجالس إحياء ذكرى أبي عبد الله (عليه السلام) ـــ لا بدّ أن ندخل في مقارنة بين واقعنا وبين واقع أهل الكوفة
فنحن الآن نقف لنلعن الذين خذلوا الحسين (عليه السلام)، ولكن لو وقفنا، بحيث كانت هناك قيادات صالحة، وخطّ حق، وهناك في الطرف المقابل قيادات غير صالحة، وخطّ للباطل، وكانت الدنيا مع الباطل وقياداته، ولم تكن مع قيادات الحقّ، فهنا القضية أن لا تقف موقف من تلعنهم، حتّى لا تكون كمن يلعن نفسه، عندما لا يقف لينصر قضية الحقّ والإصلاح التي أرادها الحسين عليه السلام.
نحن نحتاج إلى أن نربّي محبّة الله في قلوبنا، ومحبّة أهل الحقّ فيها، ونؤكّد هذه المحبّة بالعمل.. ولذا لم يكتفِ الله تعالى منّا بالحبّ كإحساس، ونبضة قلب، وقال: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ} فإذا كنتم تحبُّون الله فاتّبعوا رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، يحببكم الله
صراع الموقف بين الحقّ والباطل.. نموذجان
أ ـــ عمر بن سعد
في "عاشوراء"، نجد هناك نموذجين، وعاشا حالة التردُّد والصراع النفسي، أحدهما عمر بن سعد.
عمر بن سعد دعاه ابن زياد إلى أن يقاتل الحسين (عليه السلام)، ومنَّاه بملك الريّ، وهي ولاية وُعِدَ بها.. بات على فراشه يتقلَّب وهو يحاول أن يدرس المسألة، ويُروى عنه في هذا المجال شعر، وهو إمَّا له أو أنّه نظم عن لسان حاله، أيّاً كان فالصورة واحدة
فوالله ما أدري وإنّي لحائرٌ أُفكِّر في أمري على خطرين
أأترك مُلْكَ الريّ والريُّ منيتي أم أرجع مأثوماً بقتل حسين
إلى أن يقول
يقولون إنَّ الله خالق جنّة ونار وتعذيبٍ وغلّ يدين
فإنْ كذبوا فُزْنا بدنيا رَخِيّة وملك عظيم دائم الحجلين
وإنْ صَدَقُوا فيما يقولون إنّني أتوبُ للرحمن من سنتين
وحسم أمره وقاد الجيوش.. حتّى أنّ الحسين (عليه السلام) أرسل إليه ليلتقيه.. فلمّا لقيه قال له (عليه السلام): "ويلك يا ابن سعد أما تتّقي الله الذي إليه معادك؟ أتُقاتلني وأنا ابن من علمت؟ ذرْ هؤلاء القوم وكن معي، فإنّه أقرب لك إلى الله تعالى
فقال عمر بن سعد: أخاف أن يهدم داري
فقال الحسين (عليه السلام): "أنا أبنيها لك".
فقال: أخاف أن تؤخذ ضيعتي
فقال الحسين (عليه السلام): "أنا أخلف عليك خيراً منها...".
فقال: لي عيال وأخافُ عليهم، ثمّ سكت ولم يجبه إلى شيء، فانصرف عنه الحسين (عليه السلام)، وهو يقول: "ما لَكَ، ذبحك الله على فراشك عاجلاً ولا غَفَرَ الله لكَ يوم حشرك، فوالله إنّي لأرجو ألاَّ تأكل من بُرّ العراق إلاّ يسيراً"
فقال ابن سعد مستهزئاً: في الشعير كفاية عن البُر(1
فهذا إنسان عاشَ الصراع: ولكنّه سَقَطَ في الامتحان.
ب ـــ الحرّ بن يزيد الرياحي
النموذج الآخر هو الحرُّ بن يزيد الرياحي (رضي الله عنه)، وهو أوّل شخص خرج ليعطِّل حركة الحسين (عليه السلام)، وليقطع عليه الطريق، وليأتي به ليسلّمه إلى ابن زياد في الكوفة، وقد تحمَّل المسؤولية في ذلك وانطلق، إلى أن التقى بالحسين (عليه السلام)
لكنَّ هذا الرجل كان يحترم الحسين (عليه السلام)، وينطلق في عمله كما ينطلق كثير من الناس، حيث يفرّقون بين الوظيفة والعبادة، فيقول لك: الوظيفة شيء، والصلاة والصوم شيءٌ آخر.
فمع احترامه للحسين (عليه السلام)، خَرَجَ عليه بمجرَّد أن أوكلت إليه المهمّة.
تروي كتب السيرة، أنّه لمّا التقى بالحسين (عليه السلام) أثناء الطريق.. كانت قد دَنَت صلاة الظهر، فقال الحسين (عليه السلام) للحرّ: "يا ابن يزيد! أتريد أن تصلّي بأصحابك وأُصلّي بأصحابي؟" فقال له الحرّ: بل أنتَ تصلّي بأصحابك ونصلّي بصلاتك
فلمَّا فرغوا من الصلاة، قام الحسين (عليه السلام) وخطب خطبة قال لهم فيها إنّه لم يقدم إلاَّ بعد أن أتته الكتب، فقال له الحرّ: أبا عبد الله! لسنا من القوم الذين كتبوا إليك هذه الكتب، وقد أُمِرْنا إن لقيناك لا نفارقك حتّى نأتي بك على الأمير
وهنا عنف الإمام (عليه السلام) معه بالكلام، ووصلت المسألة إلى أن ضرب الحسين (عليه السلام) بيده إلى سيفه ثمّ صاح بالحرّ: "ثكلتك أمّك! ما الذي تريد أن تصنع"؟
وكان الحرّ يملك صفتين: صفة كونه قائداً عسكرياً عند ابن زياد، وصفة كونه زعيم عشيرة بني رياح، ولذا كانت هذه الكلمة من الحسين (عليه السلام) ثقيلة عليه فقال للحسين (عليه السلام): أما والله لو قالها غيرك من العرب لرددتها عليه كائناً مَن كان، ولكن لا والله مالي إلى ذلك سبيل من ذكر أمّك، غير أنّه لا بدّ أن أنطلق بك إلى عبيد الله بن زياد.
ولما كثر الكلام بينهما قال له الحرّ: إنّي لم أومر بقتالك، إنّما أُمِرْت أن لا أُفارقك حتّى أقدمك الكوفة، فإذا أبيت فخذ طريقاً لا يدخلك الكوفة ولا يردك إلى المدينة، تكون بيني وبينك نصفاً، حتى أكتب إلى الأمير عبيد الله، فلعلَّ الله أن يأتي بأمر يرزقني فيه العافية من أن أبتلى بشيءٍ من أمرك.
لذلك، لا بدّ أن نحاول أن لا يكون عملنا مضادّاً لمبادئنا.. وقيمة المبادئ أنّها تجعل الإنسان يتقيَّد بكلّ التزاماتها، وإلاّ فما معنى أن يكون لديك مبدأ؟
إنَّ المبادئ تعني أنّك تلتزم خطاً تمليه هي عليك، وتعني أنّ هذا الإيمان والالتزام يمثّل خلاصك في الدنيا والآخرة؛ وإذا كان كذلك، فكيف تسمح لنفسك بأن تنحرف عنه؟!
وإذا كنتَ تتذرَّع بلقمة العيش، فالله لم يجعل رزقك في الحرام، والله سبحانه وتعالى تكفّل برزقك، ولكنّك تستعجل الحرام، فتفوّت الحلال بذلك
إذن، فالحرّ لا يريد أن يقاتل الحسين (عليه السلام)، لا يريد أن يعطّل وظيفته، ولذلك دخل في تلك التسوية مع الحسين (عليه السلام).. وهكذا اتّجه الحسين (عليه السلام) ـــ على ما تقول كتب السيرة ـــ إلى كربلاء
ولم يكن الحرُّ يظنّ بأنَّ المسألة ستصل إلى هذا الحدّ، وأنّه يمكن أن يتمَّ الأمر تسويةً كما صنع هو.. في هذا المجال تنقل السيرة أنّه لمّا وصلت المسألة إلى حدّ المواجهة، وزحف عمر بن سعد بالجيوش، قال له الحرّ
أصلحك الله، أمُقاتلٌ أنتَ هذا الرجل؟
قال ابن سعد: إي والله، قتالاً أيسره أن تسقط الرؤوس وتطيح الأيدي.
قال: أفمالكم في واحدة من الخصال التي عرض عليكم رضى؟ ـــ يعني أنّه قد عرض عليكم عروضات سلميّة فلولا أجبتموه إلى واحدة منها
قال عمر بن سعد: أما والله لو كان الأمر إليَّ لفعلت، ولكنَّ أميرك قد أبى ذلك.
وهنا أدرك الحرّ أنّ الموقف حاسم، وأنَّ المعركة سوف تقع مع الحسين (عليه السلام)، وهو موجود في صف جيش ابن زياد في موقع قيادي فيه، وليس مجرّد جندي عادي، والمفروض منه أن يقاتل.. فوصل للخيار الصعب
وهنا يقال إنّه أخذ يدنو من الحسين (عليه السلام) قليلاً قليلاً، فقال له رجل من قومه، وهو المهاجر بن أوس: ما تريد يا ابن يزيد؟ أتريد أن تحمل؟ فسكت وأخذه مثل العُرواء (أي إنّه يرتعد
فقال له المهاجر: يا ابن يزيد! والله إنَّ أمرك لمريب، والله ما رأيتُ منك في موقف قط مثل شيء أراه الآن، ولو قيل لي مَن أشجع أهل الكوفة رجلاً؟ ما عدوتك، فما هذا الذي أراه منك؟!.
قال الحرّ: إنّي ـــ والله ـــ أُخَيِّر نفسي بين الجنّة والنار، والله لا أختار على الجنّة شيئاً ولو قُطِّعْت وحُرِّقْت.
فلو أنّ كلّ خير الدنيا كان في جعبتك، ولكنّ النار في النهاية، فما الفائدة؟ ولو أنّه كان التعب والنصب في الدنيا، ولكنّ الجنّة بانتظارك في نهاية المطاف فهنا السعادة، كلّ السعادة، والحديث يقول: "وما شرٌّ بشرّ بعده الجنّة، وما خير بخير بعده النار.
ثمّ ضرب فرسه فلحق بالحسين (عليه السلام)، فقال له الحرّ: جعلني الله فداك يا ابن رسول الله، أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع، وسايرتك في الطريق، وجعجعتُ بك في هذا المكان، والله الذي لا إله إلاّ هو، ما ظننتُ أنّ القوم يردُّون عليك ما عرضت عليهم أبداً، ولا يبلغون منك هذه المنزلة، فقلت في نفسي: لا أُبالي أن أطيع القوم في بعض أمرهم، ولا يرون أنِّي خرجت من طاعتهم، وأمّا هم فسيقبلون من حسينٍ هذه الخصال التي يعرض عليهم، والله لو ظننتُ أنّهم لا يقبلونها منك ما ركبتها منك، وأنّي قد جئتك تائباً ممّا كان منّي إلى ربّي ومواسياً لك بنفسي حتّى أموت بين يديك، أَفَتَرَى ذلك لي توبة؟!
قال الإمام (عليه السلام): "نعم يتوب الله عليك، ويغفر لك..
الحريّة حركة من داخل الذّات
وعندما استشهد أعطاه الحسين (عليه السلام) هذا الوسام: "أنتَ الحرُّ كما سمَّتك به أمّك، حرٌّ في الدنيا وسعيدٌ في الآخرة"وهنا يعطينا الحسين (عليه السلام) معنى الحريّة، بأنَّ الحرّ هو الذي يملك إرادته، وقراره، وموقفه، وأن يقول: لا، حتّى لو كانت الضغوط تفرض عليه أن يقول: نعم.
فالحريّة ليست حركة من خارج الإنسان، بل هي حركة تنطلق من داخله.
وهذا المعنى هو الذي يؤكّده الإمام الصادق (عليه السلام): "إنَّ الحرّ حرٌّ في جميع أحواله، إن نابته نائبة صَبَرَ لها، وإن تداكَّت عليه المصائب لم تكسره وإن أسر وقهر.
وهذا هو الذي يريده الحسين (عليه السلام) منّا.. أن نملك حريّة الإرادة، بأن لا نستسلم لأي ضغط داخلي من شهوة أو طمع، ولا لضغط خارجي من خوف أو غير ذلك.
لذلك، علينا أن نربّي أنفسنا ـــ من عاشوراء التي خاض فيها هؤلاء الأبطال التجربة الصعبة، ونجحوا فيها ـــ لننجح في كلّ التجارب الصعبة التي تواجهنا وأن يكون أحدنا عندما يعيش الصراع بين الجنّة والنار أن يكون مثل الحرّ، يختار الجنّة على النار، ولو قُطِّع وحُرِّق..