التعامل الإنساني في سيرة الإمام علي (ع
التعامل الإنساني في سيرة الإمام علي (ع
تميزت حياة أمير المؤمنين عليه السلام بخصال عديدة كان من أوضحها تعامله الانساني المجرد مع الآخرين والمبني على احترام الانسان كإنسان بغض النظر عن أي شيء آخر والمحافظة على حقوقه وشخصيته المادية والمعنوية في أي موقع ومكان ومهما كان حجمه ومستواه.
ولقد كانت حياة أمير المؤمنين زاخرة بأمثلة عديدة من التعامل الانساني مع الآخر في مختلف الاوضاع والظروف، فهي بحق - بعد رسول الله (ص) - أفضل مثال وقدوة تحتدى، خصوصاً ونحن نستعيد هذه الأيام ذكرى ولادته الشريفة.
وان حضور هذا البعد في حياته، هو الذي جعل من شخصيته، شخصية انسانية خالدة على مستوى البشرية كلها، وليس في تاريخ المسلمين وحدهم.
فمن شواهد التعامل الانساني عند علي ماجرى في معركة صفين، حين سبق جيش معاوية جيش الامام(ع) في الوصول الى منطقة القتال، واستولى على مشرعة الفرات ومنعوا جيش الامام من الوصول اليه، فضج أصحاب الامام من ذلك، فقام فيهم خاطباً وقال كلمته الشهيرة : «الموت في حياتكم مقهورين والحياة في موتكم قاهرين، رووا سيوفكم من الدماء ترووا من الماء»
فاستنهض الامام بذلك جيشه للوصول الى المشرعة، وهذا ماحصل فعلاً، حيث استطاعوا أن يجلوا جيش معاوية عنها وان تكون لهم السيطرة عليها، فلما كان ذلك تصايحوا يقولون له: ( نمنعهم من الماء كما منعونا وتقتلهم بسيف العطش ولكنه رفض ذلك وقال: «خذوا حاجتكم من الماء وارجعوا الى معسكركم وخلوا بينهم وبين الماء فاني لا افعل مافعله الجاهلون»
وهكذا يضرب لنا مثلاً يحتذى في رفض استخدام الحصار والتضييق ومنع ضرورات الحياة عن العدو الذي يخوض معه معركة حاسمة، حتى وإن لجأ العدو الى هذا الاسلوب.
هذه الرؤية في الواقع العالمي الدولي غائبة عن قاموس السياسة الدولية اليوم، فها أنت ترى الدول الكبيرة والمتحكمة تمارس الحصار والمقاطعة للشعوب الضعيفة، بحجة تصفية خلافاتها مع بعض الانظمة والحكام، رغم أنهم يعلمون أن ضحية هذا الحصار هو الشعب نفسه فأين الانسانية من كل هذا..
ومن الشواهد الاخرى في هذا المجال ان رجلا من اصحاب الامام اسمه (عبيد الله بن الحر الجعفي) خان الامام والتحق بجيش معاوية في جوف الليل اما زوجته فكانت في الكوفة وتناهى الى سماعها خبر هلاك عبيد الله في المعركة.. فاعتدت عدة الوفاة وبعد ذلك تزوجت برجل من اهل الكوفة في الوقت الذي كان عبيد الله حياً في الشام.. وحين اخبر بزواج زوجته .. خرج من الشام ليلاً.. وتوجه فوراً الى بيت زوجته التي اخبرته بزواجها من رجل غيره فرأى ان يتشرف بلقاء مولانا امير المؤمنين (ع) ويخبره بقصته.. وامير المؤمنين رجل العدالة والحق ولا يعدل عن الحق وان كان المحق خائناً
التقى عبيد الله بامير المؤمنين (ع) منكساً رأسه خجولاً لكونه يعلم انه خائن..سلّم على الامام .. اجابه الامام وتساءل مستنكراً: «أعبيد الله انت؟»
قال: هل ان خيانتي تمنعك من العدل يا أمير المؤمنين؟ أجابه الامام: «كيف.. ؟» وطلب منه ان يسرد قصته وطلب من الامام ان يغيثه في امره .. والامام (ع) امر باحضار زوجته وزوجها الثاني وقال: على المرأة ان تنفصل من زوجها الثاني وتبدأ بالعدة من الآن .. وبعد انتهاء عدتها تعود الى زوجها الاول ان لم تكن حاملاً.. ولو كانت حاملاً لا يعود اليها الزوج الاول حتى تضع ما في بطنها .. وولدها حلال طاهر وتابع لابيه: الزوج الثاني .. وبعد ذلك تعود المرأة الى زوجها الاول
(فزوجة عبيد الله لم تراجع الحاكم الشرعي ولم يطلقها بل بادرت من نفسها إلى الاعتداد والزواج لذلك انفسخ الزواج الثاني بعد حضور الزوج الاول طبيعياً ودون طلاق )
ان العدل شرعة ثابتة لا تنتقض حتى في التعامل مع العدو ويقول تعالى: ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾
_ علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) والسراق الثمانية
عَنِ الْحَارِثِ بْنِ حَصِيرَةَ، قَالَ: مَرَرْتُ بِحَبَشِيٍّ وَهُوَ يَسْتَسْقِي بِالْمَدِينَةِ وَ إِذَا هُوَ أَقْطَعُ
فَقُلْتُ لَهُ: مَنْ قَطَعَكَ؟
فَقَالَ: قَطَعَنِي خَيْرُ النَّاسِ، إِنَّا أُخِذْنَا فِي سَرِقَةٍ وَ نَحْنُ ثَمَانِيَةُ نَفَرٍ، فَذُهِبَ بِنَا إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ( عليه السَّلام )، فَأَقْرَرْنَا بِالسَّرِقَةِ.
فَقَالَ لَنَا: "تَعْرِفُونَ أَنَّهَا حَرَامٌ" ؟
قُلْنَا: نَعَمْ
فَأَمَرَ بِنَا فَقُطِعَتْ أَصَابِعُنَا مِنَ الرَّاحَةِ وَ خُلِّيَتِ الْإِبْهَامُ، ثُمَّ أَمَرَ بِنَا فَحُبِسْنَا فِي بَيْتٍ يُطْعِمُنَا فِيهِ السَّمْنَ وَ الْعَسَلَ حَتَّى بَرَأَتْ أَيْدِينَا، ثُمَّ أَمَرَ بِنَا فَأُخْرِجْنَا، وَكَسَانَا فَأَحْسَنَ كِسْوَتَنَا.
ثُمَّ قَالَ لَنَا: "إِنْ تَتُوبُوا وَتَصْلُحُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، يُلْحِقْكُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنْ لَا تَفْعَلُوا يُلْحِقْكُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ فِي النَّارِ" الكافي : 7 / 264 ، للشيخ الكُليني
_ وقد اتت للامام (ع) امرأة فقالت: ان زوجي وقع على جاريتي بغير امري -أي اعتدى خلقياً عليها.-
فقال للرجل : «ما تقول؟ » قال: ما وقعت عليها الا بأمرها
قال متوجهاً للمرأة : ان كنت صادقة رجمته وان كنت كاذبة ضربناك حداً
وأقيمت الصلاة وقام علي (ع) ليصلي. ففكرت المرأة في نفسها فلم تر لها فرجاً في رجم زوجها ولا في ضربها الحد، فخرجت ولم تعد. ولم يسأل عنها علي(ع)
في الوقت الذي كان الامام يستطيع ان يأمر بالقاء القبض عليها واحضار زوجها ويحد احدهما.. لكنه لم يكن يحمل في قرارة نفسه عقدة تعذيب الناس.. وكان يعفو قدر استطاعته .
الامام علي عليه السلام والسائل
عَنِ الْحَارِثِ الْهَمْدَانِيِّ قَالَ: سَامَرْتُ (المحادثة ليلاً) أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَرَضَتْ لِي حَاجَةٌ؟
قَالَ: "فَرَأَيْتَنِي لَهَا أَهْلًا" ؟
قُلْتُ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ.
قَالَ: "جَزَاكَ اللَّهُ عَنِّي خَيْراً".
ثُمَّ قَامَ إِلَى السِّرَاجِ فَأَغْشَاهَا (أطفأه أو جعله خلف شيء حتى لا يسطع نوره) وَجَلَسَ
ثُمَّ قَالَ: "إِنَّمَا أَغْشَيْتُ السِّرَاجَ لِئَلَّا أَرَى ذُلَّ حَاجَتِكَ فِي وَجْهِكِ، فَتَكَلَّمْ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه و آله يَقُولُ: الْحَوَائِجُ أَمَانَةٌ مِنَ اللَّهِ فِي صُدُورِ الْعِبَادِ، فَمَنْ كَتَمَهَا كُتِبَتْ لَهُ عِبَادَةٌ، وَ مَنْ أَفْشَاهَا كَانَ حَقّاً عَلَى مَنْ سَمِعَهَا أَنْ يَعْنِيَهُ(يكفيه) الكافي: 4 / 24،.
_ وروي انه كان جالساً في اصحابه، فمرت بهم امرأة جميلة فرمقها القوم بابصارهم، فقال : «إن ابصار هذه الفحول طوامح، وان ذلك سبب هبابها –أي هلاكها- فاذا نظر احدكم الى امرأة تعجبه، فليلامس اهله، فانما هي امرأة كامراته.»
فقال رجل من الخوارج: قاتله الله كافراً ما افقهه. فوثب القوم ليقتلوه.
فقال : «رويداً –أي على مهلكم- انما هو سبًّ بسبّ او عفو عن ذنب»
وقد تجلت أروع صور الحالة الانسانية في حياة الامام علي (ع) في الساعات الاخيرة من حياته الشريفة، مع الرجل الذي ضربه بالسيف وهو في محراب صلاته.
فقد هرب عبد الرحمن ابن ملجم من المسجد يريد الفرار فانسدت طرقات الكوفة وسككها في وجه ابن ملجم، حتى قبض عليه بعض اصحاب علي (ع) فجاءوا به اليه، وهو بعد متأثراً بضربة السيف المسموم والدماء تنـزف من مفرق رأسه، وأصحابه يتصايحون، ها هو عدو الله قد أتيناك به يا امير المؤمنين(ع) فنظر اليه الامام نظرة مشفق عليه، لا نظرة انتقام وتشفي وقال له: «يابن ملجم أبئس الامام كنت لك» واذا ابن ملجم يبكي ويقول : لا..
واستمر تعامله الانساني الرائع معه حتى آخر لحظة من حياته، فحينما وصف الاطباء اللبن دواءً وغذاء للامام فبادر الناس حتى الفقراء والمعدمون في الكوفة بجلب ما يتمكنون من اللبن الى بيت الامام، حمل الامام الحسن (ع) واحداً من أقداح اللبن الى الامام علي(ع) ، فلما شرب منه قليلاً ناول ولده بقية القدح وقال: «خذوه لأسيركم أطعموه مما تأكلون واسقوه مما تشربون الله الله في أسيركم.
ان هذا المستوى الانساني الرفيع الذي احتوته شخصية علي (ع) ، هو الذي ارتفع بعلي الى درجات من السمو والخلود قل ان تجد لها نظيراً الا شخصية استاذه ومعلمه رسول الله (ص)
وفي ذكرى ميلاد علي يمكننا أن نتعلم الكثير وأن نتقمص الكثير من ملامح العظمة والخلود في شخصيته، غير أن استيعاب البعد الانساني في حياته يبقى هو البعد الاكثر الحاحاً واهمية، فنسأل الله أن يعيننا على الاقتداء بسيرته فانها منهج صلاح وفلاح.