لبنان الكيان الوظيفة والدور
الشيخ علي سليم سليم
كيف يمكن الحفاظ على الكيانية المنشأة في قبال مفهوم الساحة التي تتلاعب بها أهواء القوى الإقليمية والدولية ومصالحها؟
ليس سراً القول أن اللبنانيين منقسمون في نظرتهم إلى التاريخ وأحداثه، في التحليل والتفسير، وهو أمر طبيعي ما دامت الرغبة السياسية الحقيقية مفقودة، في السير في توحيد المنهج في تدريس مادة التاريخ ولم تكن الكتابة بالأساس على سبيل الدراسة الموضوعية، بل هي أقرب إلى النوازع العاطفية فيما قدمه هؤلاء من تشويه تاريخي وآراء ونظريات اتخذت منحى سياسياً محدداً، لم تتم على ضوء أصول ووثائق محايدة وموضوعية وغير مشكوك فيها.
وكان جميع مؤرخي القرن التاسع عشر ينتمي إلى المذاهب المسيحية إذ ليس فيهم أي مؤرخ مسلم من السنة والشيعة وحتى الدروز طبعاً المقصود ما يخص جبل لبنان ـ وقد نسج صاحب مختصر تاريخ لبنان العينطوريني فيه على غرار المؤرخين الإكليركيين معتبراً أن تاريخ الموارنة إنما هو صراع ضد محيط عدائي
ومن نافل القول عدم وجود كتاب مدرسي رسمي في مادة التاريخ، ويبدو أن ذلك غير محصور في لبنان، حيث تحدث د.جورج ستوبر من المعهد العالمي لمراجعة الكتب المدرسية في أوروبا، عن تجربة الكتاب المدرسي الفرنسي الألماني الذي لم يطبق نظراً إلى الخلافات عليه، لكننا نبقى في لبنان في قمة الصدارة في الاتفاق على الاختلاف في كل شيء على أساس وجود التنوع الذي أفضى إلى إرساء تعددية تربوية لم تعزز التماسك الاجتماعي، ولم تستطع جميع محاولات وزراء التربية والتعليم حتى الآن من إصدار كتاب موحد، وعلى حد تعبير احد وزراء التربية "وأصبح التاريخ مادة تعبئة إيديولوجية ومجالاً للانغلاق وتضخيم الخصوصيات التي تحولت في لبنان إلى جزر ثقافية ... وبات وسيلة لبناء ولاءات سياسية لا تعترف بوطن يقوم على الشراكة" .
لبنان أنشئ ليكون ساحة صراع:
قبل نشوء الكيانات كانت الأقطار العربية وجزء من بلدان المسلمين تجتمع في بوتقة واحدة منذ العهد المملوكي إلى العهد العثماني قروناً من الزمن، حتى مطلع القرن الماضي حينما تفشى المرض في جسم السلطنة مؤذناً بالأفول، لتشهد تلك المنطقة من العالم حرباً عالمية ضروساً كان من نتائجها توزيع تركة السلطنة بين المنتصرين في المعركة عبر اتفاقية سايكس ـ بيكو حيث جزأت الأقطار إلى كيانات مستقلة، ليسهل من خلال ذلك الهيمنة على أوضاع البلاد وعلى مستوياتها كافة، ولا زالت تعمل على تجزئة المجزأ وتقسيم المقسم، فكان لتلك الاحتلالات دور أساسي في وضع حدود عالمنا العربي في صيغته الحديثة وأشكال الحكم فيه.
ولا يعني ذلك تبرير السياسات التي اتبعت في تلك الاحقاب ولا القسوة التي اتصف بها المماليك والعثمانيون، ولا السياسات الإدارية والاقتصادية والعسكرية التي انتهجها، بالأخص العثمانيون، الذين بلغوا أوج قوتهم ثم بدأوا بالانحدار راسمين بخطهم البياني هبوطاً مريعاً، حتى بات الأوربيون يتحكمون بكل مفاصل الدولة المتداعية إلى السقوط الكامل والانهيار الحتمي، بنتيجة منطقية لا تشذ عن الأسباب والمقدمات بل والسنن التاريخية في كل الأمم السالفة.
ولا يعني ذلك أيضاً المناهضة لتأسيس الكيانات واستقلالها وتقرير مصيرها وحكم ذاتها وإدارة شؤونها بنفسها وأن تأخذ بكل أسباب القوة.
لكن المشكلة ليست هنا، بل المشكلة في نظرتنا لقضايانا كأمة، فالغرب ينظر إلينا حينما يخطط لمشاريعه بشكل استراتيجي، وبدراسة تتسم بأكبر قدر من الإحاطة والشمولية لضمان نجاح ما يخطط له، وعندما يحين الوقت للتنفيذ تبدو كبقعة الزيت تأخذ بالاتساع كما أطلقوا على واحدة من حلقات مشاريعهم في منطقتنا بينما نحن ننظر إلى ذلك بصورة تجزيئية مبتسرة، ولا يهمنا ما يجري من حولنا ونتعاطى معه كما لو كنا نعيش في جزيرة لا يحيط بنا سوى البحار من أربع جهات الأرض، فنقول لبنان أولاً ومصر أولاً وهكذا... إلى أن أصبحنا شعوباً متعددة في داخل البلد الواحد حتى لو صغر حجمه وضاق بأهله وساكنيه، فلكل شعب من شعوبه ثقافته وعاداته وانتماؤه، وتطلعاته وأحلافه وارتباطاته بهذا الخارج أو ذاك حفظاً للبقاء وذوداً عن الوجود، حيث كل منهم يشعر بتهديد الوجود وتضرر المصالح.. إلى حد لم يبق جامع يجمع تلكم الشعوب المتحدة! لست من المدافعين عن السلطنة العثمانية، لقد اقترفت الكثير من الخطايا، وساهمت بالكثير من إيجاد عوامل الانقسام طائفياً ومذهبياً، وسعت إلى حتفها بيدها.. لكن العرب الموهومين صدقوا تعهدات الغرب وانخدعوا بها انتقلوا من حكم العثمانيين إلى سيطرة الاحتلال الفرنسي والبريطاني الذي دعوه بالانتداب تلطفاً، فتفرقوا أيدي سبأ ونشأت دول جديدة بأغلب أنظمتها موالية لمنشئيها المستعمرين الذين كانوا أوفياء صدقوا بوعدهم في إقامة دولة "إسرائيل" على أرض عربية بعد سلسلة ممنهجة من المجازر والطرد والتهجير.
وهذا ما لم يحصل في زمن العثمانيين الذين لم يفرطوا بفلسطين، وربما تكون هذه حسنة تحفظ لهم في التاريخ.
مشروعان لا يلتقيان