وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ
{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم:4)
الله تعالى جلَّ جلاله هو ذاتٌ مستجمعة لتمام صفات الجمال
كذلك كان دين الله دين الكمال والرحمة والعدل وأحكامه كلُّها عدلٌ ورحمةٌ وخير .
وكذلك كان انبياء الله تعالى ورسله كاملين في انفسهم وفي اخلاقهم وسلوكهم وكان سيدهم في ذلك رسول الله (ص).
قال الراغب: والخلق- بفتح الخاء- والخلق- بضم الخاء- في الأصل واحد كالشرب والشرب لكن خص الخلق- بالفتح- بالهيئات والأشكال والصور المدركة بالبصر، وخص الخلق- بالضم- بالقوى والسجايا المدركة بالبصيرة قال تعالى: «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» انتهى.
«خلق» من مادّة (الخلقة) بمعنى الصفات التي لا تنفكّ عن الإنسان، وهي ملازمة له، كخلقة الإنسان.
والعظيم: الرفيع القدر وهو مستعار من ضخامة الجسم، وشاعت هذه الاستعارة حتى ساوت الحقيقة.
و (على) للاستعلاء المجازي المراد به التمكن كقوله: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة: 5] ومنه قوله تعالى: إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ [النمل: 79]، إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الزخرف: 43]، إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ [الحج: 67].
الخلق العظيم: يشمل ذلك كل ما وصف به القرآن محامد الأخلاق و ما وصف به النبي صلى اللّه عليه وآله.
إن الدين هو حسن الخُلُق، وإنَّ أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم أخلاقاً، وأفضل شيءٍ ترقى به عند الله هو حُسُن الخُلُق.
قال الصحابي الشهيد جعفر بن ابي طالب مبيّنا حقيقة الإسلام ومحل الاخلاق منه:
كنَّا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل المتيتة، ونأتي الفواحش، ونسيء الجوار، ونقطع الرحم حتى بعث الله فينا رجلاً نعرف أمانته، وصدقه، وعفافه، ونسبه فدعانا إلى الله لنعبده ونوحِّده، ونخلع ما كان يعبد آباؤنا من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكفّ عن المحارم والدماء "
فالإسلام ذو مضمونٍ أخلاقي والخُلُق هو ضبط للذَّات
ومن تأكيد اللّه أنّ الرسول «على» خلق عظيم يتبين أنّه- صلّى اللّه عليه وآله- ما كان يتكلّف الأخلاق، ولا كانت عرضية تأتي وتزول، بل هي سجايا وملكات.
فليس هو ذا خُلًقٍ، بل هو على خلقٍ فهو على خلقٍ أي متمكنٌ من مكارم الأخلاق.
والله العظيم الذي له خزائن الكمالات ومكارم الأخلاق كلها من عنده يقول للنبي صلّى
اللّه عليه وآله﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ فالعظيم يَصِفُ النبي بأنه ذو خلقٍ عظيم
وقد أخذت قضية الأخلاق عامة، وأخلاقه صلى اللّه عليه وآله خاصة. محل الصدارة وقد أجمل صلى اللّه عليه وآله البعثة كلها في مكارم الأخلاق في قوله: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».
وتأصّل هذا (الخلق العظيم) في شخصية الرّسول صلّى اللّه عليه وآله هو دليل واضح على رجاحة العقل وغزارة العلم له.
عن الإمام الصادق عليه السلام : إنّ اللّه عزّ وجلّ أدّب نبيه فأحسن أدبه، فلمّا أكمل له الأدب قال: «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ»
عن الباقر عليه السّلام: «يقول: على دين عظيم» وفي رواية: «هو الاسلام» فانّ فيه جميع مكارم الأخلاق، والتنزّه عن كلّ مساوئها بحيث لا يدانيه دين وأنت ملتزم به مسؤول عليه، لا يفوتك شيء منه، ولذا فقت سائر الأنبياء والرسل في الكمال والمعارف وحسن الأخلاق والأعمال.
وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ في رحابة صدرك، ورأفة قلبك، ولين كلامك، ورقة شعورك، وحرصك على من حولك، وبالكلمة التي هي أحسن، والأسلوب الذي هو أفضل، والنصيحة التي هي أقوم، والروح التي هي أصفى، والقلب الذي هو أنقى، والقوّة في غير قسوة، والرفق في غير ضعف، والصبر في غير خوف، والتواضع في غير ذل، والعزة في غير كبر.
فالآية ناظرة إلى أخلاقه الجميلة الاجتماعية المتعلقة بالمعاشرة كالثبات على الحق والصبر على أذى الناس وجفاء أجلافهم و العفو والإغماض و سعة البذل والرفق والمداراة والتواضع و غير ذلك.
ومن أعظم أخلاقه وما يمكن لإنسان أن يبلغه هو سعة الصدر، التي كانت آلته للرئاسة بعد الإسلام، ووسيلته التي استوعب بها الناس في الدين، وملك قلوبهم .. وفيهم العدو الحاقد، والجلف الصلف، والكافر الجاهل، والمشرك الضال و .. و ..، وإنّها لأهمّ ما يحتاجه المصلحون من الأخلاق، ولذلك مدحه ربّ العالمين بها وثبّت ذكرها بالذات في كتابه من دون سائر الأخلاق فقال:وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ آل عمران/ 159
وقد عني صلى اللّه عليه وآله بالأخلاق حتى كان يوصي بها المبعوثين في كل مكان، كما أوصى معاذ بن جبل بقوله: «اتق اللّه حيث ما كنت و أتبع السيئة الحسنة تمحها
و خالق الناس بخلق حسن»
وقال صلى اللّه عليه وآله: «إن مما أدرك الناس من كلام النبوة: إذا لم تستح فاصنع ما تشاء» أي إن الحياء وهو من أخص الأخلاق سياج من الرذائل، وهذا مما يؤكد أن الخلق الحسن يحمل على الفضائل، ويمنع من الرذائل.
وإذا رجعنا إلى بعض الآيات نجد بعض البيان لما كان عليه صلى اللّه عليه وآله من عظيم الخلق مثل قوله تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128].
وقوله: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ [آل عمران: 159].
وقوله: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125].
قوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [الأعراف: 199].
ومثل ذلك من الآيات التي فيها التوجيه أو الوصف بما هو أعظم الأخلاق، و إذا كان خلقه صلى اللّه عليه وآله هو القرآن، فالقرآن يهدي للتي هي أقوم.
والمتأمل للقرآن في هديه يجد مبدأ الأخلاق في كل تشريع فيه حتى العبادات.
ففي الصلاة خشوع و خضوع و سكينة و وقار، فأتوها و عليكم السكينة و الوقار.
وفي الزكاة مروءة وكرم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى [البقرة: 264]
وقوله: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً (9) [الإنسان: 9].
وفي الصيام «من لم يدع قول الزور و العمل به فليس للّه حاجة في أن يدع طعامه و شرابه»
ضرورة قراءة السيرة
قال تعالى : ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ الأحزاب: " 21
فكيف يكون النبي أسوةً حسنةً لك ؟ إن لم تعرف سيرته، إن لم تعرف أخلاقه، وعطاءه، ورحمته، ولطفه و..... فيجب علينا أن نقرأ سيرة النبي كي نتبعه ونقتدي به ، لأن الله عزَّ وجل لم يقبل دعوة محبته إلا باتباعه واتباع سنته ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ﴾آل عمران: 31
وفي الرواية أحبّكم إلى اللّه أحسنكم أخلاقا، الموطّئونأكنافا، الذين يألفون و يؤلفون. و أبغضكم إلى اللّه المشّاءون بالنّميمة، المفرّقون بين الإخوان، الملتمسون للبراء العثرات
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ)، قَالَ: ...وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ، وَكَانَ فِيمَا خَاطَبَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أَنْ قَالَ لَهُ: يَا مُحَمَّدُ: وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ قَالَ: السَّخَاءُ وَحُسْنُ الْخُلُقِ».