من مظاهر التجديد والأصالة عند الإمام الخميني(رض) (2)
من مظاهر التجديد والأصالة عند الإمام الخميني(رض) (2)
كتاب بعنوان «الإمام الخمينيّ الأصالة والتجديد» لسماحة الشيخ نعيم قاسم يؤرخ ويوّثق لأهم المحطّات التي مرّت وحفلت بها حياة الإمام الخمينيّ(رض)، ويتناول معالم خط الإمام الخمينيّ(رض)، من خلال أقواله ومواقفه، مبيناً الأصالة والتجديد فيها.
في هذا الكتاب مروحة واسعة من الموضوعات التي تعرض لها الإمام (قده) وصلت إلى 35 عنوانا في السياسة والعقيدة والثقافة والناحية الاجتماعية والقضائية والنظرة إلى المرأة والشباب وغير ذلك.
ونحن في مجلة اللقاء نطل على هذا الكتاب في خلال عددين ونعرض لمضامين هذا الكتاب الغزيرة بما يمكن ان نعدّه اختصارا للكتاب بحيث نتناول كل عنوان مع بيان المراد منه ومواطن التجديد فيه مع شواهد محدودة من كلام الامام الخميني (قده)
ولاية الفقيه والحكم الإسلامي
برزت ولاية الفقيه العامة مع الإمام الخميني(قده)، وكأنها فكرة جديدة في نظرة علماء المسلمين إليها، مع العلم بأن علماء كبار في التاريخ الإسلامي قد قالوا بها، كالشيخ المفيد (ت413هـ)، والشيخ الطوسي (ت460هـ)، والعلامة الحلي (ت726هـ)، والشهيد الأول الفقيه العاملي محمد بن مكي الجزيني (ت786هـ) والشهيد الثاني العاملي زين الدين بن علي (ت965هـ)، والشيخ النجفي صاحب كتاب الجواهر(ت 1266هـ)، كما قال بها جمع من العلماء المعاصرين كالسيد البروجردي، والسيد الكلبايكاني، والشهيد السيد محمد باقر الصدر. لكن الظروف التاريخية للعلماء لم تكن سانحة في السابق للتنظير لها بشكل مفصل، أو للتعبير عنها بشكل واسع عملياً، حتى في ما هو أضيق من إقامة الدولة الإسلامية، لعدم وجود السلطة بأيديهم، أو عدم ملاءمة الأجواء المحيطة بهم لإعمال ولايتهم.
والذي أدى إلى بروزها بهذا الشكل وهذه السعة مع الإمام الخميني(قده)، سببان رئيسان:
الأول: مستوى الاهتمام بها من قبله، وتفصيلها في مناسبات عدة، وقد استدل على أولويتها، بشكل مركز في كتب ثلاثة: كتاب "كشف الأسرار" الذي طرح من جملة موضوعاته ولاية الفقيه والحكومة الإسلامية، وذلك عام 1944. وكتاب "الحكومة الإسلامية" وهو مجموعة محاضرات ألقاها في النجف الأشرف عام 1969، و"كتاب البيع" في قسم من جزئه الثاني الذي صدرت طبعته الأولى عام 1976.
الثاني: تطبيقها العملي بسقوط الشاه وقيام الجمهورية الإسلامية في إيران، وكتابة دستور مبني على الالتزام بولاية الفقيه كركيزة أساسية في الحكم.
وتحدث الإمام الخميني(قده) عن الحكومة الإسلامية وأنها لا تقتصر الخلافة على عصر النبي وما بعده مباشرة فقط، وإنما تمتد الحاجة إليها في كل زمان ومكان فقال: "بديهي أن ضرورة تنفيذ الأحكام لم تكن خاصة بعصر النبي(ص)، بل مستمرة، لأن الإسلام لا يحد بزمان أو مكان، لأنه خالد، فيلزم تطبيقه وتنفيذه والتقيد به إلى الأبد. وإذا كان حلال محمد حلالا إلى يوم القيامة، وحرامه حراماً إلى يوم القيامة، فلا يجوز أن تعطل حدوده، وتهمل تعاليمه، ويترك القصاص، أو تتوقف جباية الضرائب المالية، أو يترك الدفاع عن أمة المسلمين وأراضيهم، واعتقاد أن الإسلام قد جاء لفترة محدودة أو لمكان محدود يخالف ضروريات العقائد الإسلامية. (الحكومة الإسلامية ص 46)
يقوم الإمام عليه السلام بدور الخليفة بعد النبي(ص)، ويقوم الولي الفقيه بدور الخليفة بعد الأئمة عليهم السلام، وأوامره مطاعة، كما كانت أوامر النبي(ص) والأئمة عليهم السلام مطاعة: وإذا نهض بأمر تشكيل الحكومة فقيه عالم عادل، فإنه يلي من أمور المجتمع ما كان يليه النبي(ص) منهم، ووجب على الناس أن يسمعوا له ويطيعوا.
لقد تجسدت الأصالة عند الإمام الخميني(قده) في استعادة معنى ودور القيادة النبوية بأبعادها المختلفة، وعدم قصرها على التبليغ فقط، ما يعني إحياء أهداف الإسلام كمبدأ كامل وشامل لحياة الإنسان، وهو بذلك يطلق الإسلام من حصار أحاطه به بعض العلماء عبر التاريخ، والذين ركزوا على دوره العبادي والأخلاقي فقط، بعيداً عن أدواره الأخرى، وخاصة في الحكم والسياسة.
وبرز التجديد في إثباته للضرورة العقلية والشرعية لولاية الفقيه في عصر الغيبة، مؤسساً لنظرية كاملة حول إقامة الدولة الإسلامية المعاصرة، لم يسبق أن فصّلها أحد من العلماء كما فصّلها الإمام الخميني(قده)، وكما طبقها بجهاده وتضحياته وقيادته للشعب الإيراني لتحقيق انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وإقامة الجمهورية الإسلامية على مبنى ولاية الفقيه، مدرجاً إياها في صلب دستور الجمهورية الإسلامية، وموضحاً لأبعادها على مستوى الأمة، فيكون بذلك قد أحيا تطبيق الإسلام وفق نظرية ولاية الفقيه.
سأل أحد الصحفيين الإمام الخميني(قده): إذا نجح سماحة آية الله في إسقاط الشاه، ما هي نوع الحكومة التي ستخلفه؟ هل ستكون حكومة عسكرية؟
فأجاب: حكومة جمهورية إسلامية، جمهورية، لأنها تستند إلى أصوات عامة الشعب، وإسلامية، لأن دستورها قانون إسلامي. الإسلام له قوانين في مختلف المجالات، ولهذا السبب لا نحتاج إلى قوانين أخرى، سننقح الدستور الحالي، يعني نقوم بمراجعته، فما يتوافق منه مع الشريعة الإسلامية نحتفظ به، ونحذف الجزء الذي يخالف الشريعة الإسلامية. (صحيفة الإمام ج 5 ص 115)
قال الإمام الخميني(قده): إن الإسلام يحول دون تحقق مصالحهم، ولذلك يجب توهين الإسلام في أعين المسلمين وفصل الناس عنه! ولهذا فإن أبواق دعايتهم تقوم أحياناً بالدعاية في أن الإسلام قد مضى عليه ألف وأربعمائة سنة، ولا يصلح لهذا اليوم! ومن جهة أخرى يقولون إنه رجعي! وجماعة أخرى تقول إن الإسلام دكتاتوري! فأي حكومة إسلامية رأيتم حتى الآن وفهمتم أنها دكتاتورية... (المصدر نفسه، ج 4 ص 131 و132)
ويقول في مورد آخر: فالناس يرغبون في أن تكون لهم حكومة عادلة، لا تظنوا أنّ معرفة الجمهورية الإسلامية أمر عسير، إنهم يتظاهرون بعدم الفهم! الجمهورية يعرفها الجميع، وإسلاميتها تعني أن يكون محتواها إسلامياً، إن للإسلام أحكاماً في مجال السياسة والمجتمع وجميع المواضيع. (خلاصة أحاديث الإمام الخميني(قده) ص: 179)
إن إلصاق التهم بالإسلام لا يغير من قدرة الإسلام على مواكبة الحياة، وكذلك نعت الإسلام بالخرافة والرجعية.
قال الإمام الخميني: ... وأكدوا في دعاياتهم على أن الإسلام إن كان شيئاً فإنه يعود إلى قبل ألف واربعمائة سنة! فقد كان العرب آنذاك متوحشين، وكان الإسلام قانوناً لهم! أما الآن فقد وجدت الحضارة، والإسلام يخالف هذا الرقي والحرية! الناس يفتقرون إلى الحرية في الإسلام. النساء لا يتمتعن بالحرية في الإسلام أساساً! الإسلام يعارض التعليم! الإسلام يعارض التجديد! فإذا ظهر الإسلام، عليكم ألا تستقلوا الطائرة أيضاَ، ولا تذهبوا إلى المدرسة، ولا تخرج النساء من منازلهن! إلى غير ذلك من هذا الكلام الذي روجوا له على نطاق واسع في العالم. (صحيفة الإمام، ج 4 ص 42)
لم يكن الطرح الإسلامي يوماً مخالفاً للمدنيّة والتطور والاختراعات والاكتشافات.
قال الإمام الخميني في وصيته الخالدة: وإذا كان المراد من مظاهر المدنية والتقدم هو الاختراعات والابتكارات والصناعات المتطورة، التي تساهم في تقدم البشر ونمو حضاراتهم، فإن الإسلام وسائر الأديان التوحيدية الأخرى لا ولن تعارض ذلك أبداً، فالإسلام والقرآن المجيد يؤكدان على ضرورة العلم والصناعة.
وإذا كان المراد من التقدم والمدنية ذلك المعنى المطروح من قبل بعض ممتهني الثقافة القائلين بالإباحية في جميع المنكرات والفواحش ـ حتى الشذوذ الجنسي وما شابه ـ فإن جميع الأديان السماوية وجميع العلماء والعقلاء يعارضون ذلك، وإن كان المأسورون للغرب أو الشرق يروجون لذلك من منطلق تقليدهم الأعمى. (النداء الأخير، ص: 16 و17)
طرح الإمام الخميني إقامة النظام إسلامي في إيران على أساس: الجمهورية الإسلامية، فالنظام إسلامي، والشكل جمهوري، وهو بتبنيه الشكل الجمهوري في إدارة إيران، يكون مجدداً ومنسجماً مع تطورات الحياة المجتمعية ومتطلبات العصر الحديث.
لا يعتبر شكل الحكم في الإسلام منزلا من عند الله تعالى كهيكلية إدارية وتنظيمية في توزيع الصلاحيات والمسؤوليات داخل الدولة، وإنما هو جزء من مساحة الفراغ (الاباحة) التي أباحها الشارع المقدس، ليختار المسلمون ما يناسبهم، بحسب متطلبات الزمان والمكان، ومنها شكل وهيكلية الحكم، على قاعدة أن يكون المضمون إسلامياً، لقوله تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام} آل عمران، من الآية 19)، وقال جل وعلا: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} (المائدة، الآية 44)
فالدولة الإسلامية هي التي تحكم بالإسلام، ويبرز هذا الأمر في دستورها وقوانينها ومتابعاتها التي تلتزم الاحكام الشرعية، فتحلل ما أحله الله تعالى، وتحرم ما حرمه الله تعالى، وهذا ما كان واضحاً جلياً في دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
الإسلام والديمقراطية
يتميز الاسلام عن الديمقراطية بالثابتة الأساس وهي الاحتكام للإسلام والعمل تحت سقفه، بالتزام أحكامه في مسائل الحلال والحرام، مع إبقاء الحرية واسعة للإنسان في مجالات الاختيار والانتخاب والمباحات.
قيّد الامام الخميني(قده) بعض المصطلحات السائدة بالإسلام، عند وجود مضمون إيجابي فيها، ليعطيها البعد الخاص به، بحيث تحمل المعاني المنسجمة معه. فهما كان معنى الجمهورية الإسلامية يختلف عنها ولها تفسيرها وتفاصيلها.
الإسلامية التي عبرت عنها تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ومهما كان معنى الديمقراطية، فإن معنى الديمقراطية الإسلامية يختلف عنها، ولها تفسيرها وتفاصليها الإسلامية التي تقيد عناوين ومفردات الديمقراطية، فتقبل منها ما ينسجم مع المضمون الإسلامي.
بل اعتبر الإمام أن الديمقراطية الإسلامية أكثر تكاملاً من ديمقراطية الغرب: ... الديمقراطية التي نسعى إلى إرساء دعائمها غير موجودة في الغرب، ديمقراطية الاسلام أكثر تكاملاً من ديمقراطية الغرب. (صحيفة الإمام، ج 4 ص 216)
حافظ الإمام الخميني(قده) على أصالة الدعوة إلى الإسلام، ولم ير مبرراً للجوء إلى مصطلحات غربية مثقلة بالمعاني الخاصة بها، وهي تختلف عن الإسلام في جوانب عديدة، أبرزها أن التشريع في الإسلام من الله تعالى
ولا يوافق الامام على إضافة كلمة الديمقراطية إلى الإسلام، بأن نقول: الإسلام الديمقراطي" فهو إساءة إليه وتعبير عن نقصه، وفي هذا يقول الامام الخميني: إن أنتم وضعتم هذه إلى جانب الإسلام فهذا مثل أن نقول: جمهورية إسلامية عادلة، إن هذه إساءة للإسلام، فالعدالة جوهر الإسلام، لهذا لا يقبل شعبنا بذلك أيضاً. (المصدر نفسه: ج 11 ص 363)
بناء عليه لا يتبنى الامام الخميني الديمقراطية المطلقة، فهي تمثل نظاماً في الاختيار مبني على آراء وقناعات الإنسان، ولا القول بأن الإسلام ديمقراطي حيث تكون الديمقراطية هي الإطار الأوسع التي يدخل الإسلام في كنفها، ولكن لا مانع من الحديث عن "الديمقراطية الإسلامية" حيث تتقيد بتعاليم الإسلام فيسقط منها ما خالفه ويبقى منها ما انسجم معه ودخل في تعاليمه مع أنه لا يحبذ استخدام المصطلحات الملتبسة ومنها مصطلح الديمقراطية ولدينا ما يعبر عما نؤمن به وهو الإسلام.
دور الشعب
مارس الشعب الإيراني خياراته بحرية، بما جسد الأصالة الإسلامية فاختار قناعاته ونظامه وممثليه من دون إلزام أو ضغط، انسجاماً مع قوله تعالى: {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي} (البقرة: 256)، وتجلى التجديد عند الإمام(قده) في توفير الآليات المناسبة داخل النظام، ليعبر الناس عن آرائهم، من خلال الاستفتاء أو الانتخاب أو حريات التعبير المتاحة، ما يعطي دوراً حقيقياً للشعب في إطار سيادته وحريته، من ضمن النظام الإسلامي الثوري المنفتح.
الشريعة والقانون
وهنا يطرح السؤال المركزي: بما أن دور الشعب واسع وشامل في كيان الجمهورية الإسلامية، وهو الذي ينتخب مجلس الشورى الذي يسن القوانين والتشريعات، فكيف يمكن التوفيق بين الأحكام الإسلامية وخيارات نواب الأمة التي قد تنساق إلى رغبات ومواقف الإسلام؟ وإذا كان التشريع بالكامل لمجلس الشورى فهل يكون مطلقاً ومجرداً عن أي قيد، وما هي ضمانة عدم تعارضه مع أحكام الإسلام؟
عالج الإمام الخميني(قده) هذا الأمر بنظرته التجديدية، فاختار الآلية الشعبية في التشريع من خلال مجلس الشورى الذي يضم نواب الأمة، وبذلك يكون قد أخذ بمتطلبات الحرية والحياة المدنية بعين الاعتبار، وحافظ على الأصالة التي تعتمد على النص الإلهي ونص المعصوم مرجعاً لها، فوضع الضوابط بالعودة إلى مجلس صيانة الدستور الذي يحكم بمطابقة قرارات مجلس الشورى للشريعة الإسلامية. وبذلك يكون قد جمع بين حرية الاختيار الشعبي وضوابط الشريعة المقدسة، فالحرية مقيدة بالحلال والحرام، ليس في مجلس الشورى فقط، بل في كل المجالات.
تجلى إبداع الإمام الخميني في المواءمة بين أن يكون الشعب مصدر السلطات، وبين أن تكون الشريعة مرجعاً للقوانين والتشريعات في مجلس الشورى.
وقف الإمام الخميني وقفة الأصالة ضد السلطان الجائر، بالكلمة والتحدي وقوة الشعب، وقفة أفضل الجهاد، فعن رسول الله(ص): ألا لا يمنعن رجلاً مهابة الناس أن يتكلم بالحق إذا علمه، ألا إن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر.
ولم يخف في الله لومة لائم، وجدد حياة الشعب الإيراني بتضحياته وصبره وصموده وقدوته. إن نظريات رفض الاستكبار والاستبداد لا تكفي، بل لا بد من ترجمة ذلك بالعمل، هكذا خاض الإمام تجربة النبي(ص) والأئمة(ع) في مواجهة الظلم والاستعباد.
تصدير الثورة
الإسلام رسالة سماوية للعالمين، قال تعالى عن مهمة النبي الأكرم(ص): {وما أرسلناك إلا حمة للعالمين} (الأنبياء: 107)، ويتحمل المؤمنون بها مسؤولية تبليغها للآخرين ودعوة الناس إليها.
لا يمكن لأحد أن يمنع الفكر من عبور الآفاق وتصدير الثورة بالتبليغ والسلوك حق مكتسب.
وقد أوضح الإمام الخميني هذا المعنى من تصدير الثورة بقوله: فنحن إذ نقول نريد أن نصدر ثورتنا، لا نريد أن نصدرها بالسيف وإنما نريد أن نصدرها بالتبليغ. (صحيفة الإمام، ج 18 ص 67)
ويقول الإمام الخميني: يجب تقديم الإسلام إلى العالم كما هو، من خلال الدعايات الصحيحة، وعندما تعرف الشعوب حقيقة الإسلام، فإنها ستقبل عليه لا محالة. (المصدر نفسه، ج 15 ص 284)
إن تصدير الثورة عن طريق التبليغ بالفكر والسلوك، كما بينه الإمام الخميني، حق مشروع، لا يستطيع أحد منعه، فالأفكار والتجارب تنتقل في أقطار المعمورة من دون اذن من أحد، ولن تنفع الافتراءات والاباطيل في محاصرتها. هذا النموذج من التصدير إحياء لأصالة الدعوة إلى الله تعالى، وتجديد في اختيار الأساليب والوسائل التي تنسجم مع الواقع المعاصر، وخاصة في مجالي التواصل الالكتروني، ومن خلال وسائل الاعلام.
الإيمان سر الانتصار
الإيمان بالله تعالى مفتاح وسر الانتصارات، فمدد القوة التي يمتلكها المؤمن في علاقته مع ربه يمكنه من مواجهة تحديات النفس والمجتمع، وينقله إلى موقع الأصالة والثبات، فتنهال عليه بركات الإيمان وخيراته، قال تعالى: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون} (الأعراف: 96)
الإيمان سر الانتصار كما قال الإمام الخميني: إن السر الذي حقق لكم النصر هو الإيمان بالله تعالى. (صحيفة الإمام، ج 9 ص31)
هذا الإيمان بالله تعالى مع خلوص النية له، يستجلب العناية بالإلهية: إن هذا الانتصار والانتصارات الأخرى متوقفة على العنايات الغيبية لله تعالى، ودعم بقية الله (أرواحنا له الفداء) والادعية الخالصة لأصحاب النفس والشخصيات الكبيرة، وهذه المعنويات المدهشة لابطال القوات المسلحة من الجيش والحرس ... كل هذا الذي تحقق في هذه السنوات من عمر الثورة، من الانتصارات الاعجازية على القوى الكبرى والعظمى وعلى وسائل الاعلام العالمية التي لم تأل جهداً للقضاء على الجمهورية الإسلامية وفي حقيقة الأمر على الإسلام العظيم، غير أن كل محاولاتهم باءت بالفشل ولله الحمد، كل ذلك من بركات الله تعالى وألطافه، وبفضل إيمان الشرائح المختلفة المتمسكة بمبادئ الإسلام، التي كانت ولا زالت تحظى دون شك بالأدعية المباركة لسيدنا بقية الله(عج). (م ن، ج 21 ، ص: 326)
الثقة بالنصر
تعطي الثقة بالنصر الإلهي زخماً معنوياً كبيراً للمؤمنين، فتهون أمامهم التحديات مهما بلغت، ويحدوهم الأمل للمخاطرة وتقليل الحسابات الدقيقة، لحساب تأثير المعنويات كعامل إضافي يدخل في عوامل الربح والخسارة.
وقد ثبّت الإمام الخميني الثقة بنصر الله تعالى في نفوس الناس، وكان يتحرك بجرأة وشجاعة وهو مطمئن إلى أن الله تعالى معه في دعمه وتسديده.
قال الإمام الخميني: فما دمنا على الحق فإننا منتصرون، وكوننا على الحق، بأن نجعل كل أمورنا إسلامية وأعمالنا مطابقة للإسلام، وأن نهذب أخلاقنا، وإذا أصبحنا كذلك، فسواء قتلنا في الميدان أو انسحبنا، فإننا على الحق ومنتصرون ذلك لأن مدرستنا منتصرة...
ركز الإمام الخميني على مفهوم النصر بمعناه الواسع، فهو لا يقتصر على الجانب الإيجابي المباشر وهو الانتصار المادي، قال الإمام: قوموا لله وانتفضوا لأجل الله، إذا كانت النهضة إلهية فإنها منتصرة، حتى ولو انهزمنا ظاهراً فإننا منتصرون، ولو لم ننهزم فإننا منتصرون أيضاً، لأننا عملنا لله، وعندما يصبح الشيء لله فهو بنفسه نصر، وعندما يكون القيام شيطانياً، ويستند إلى أهواء النفس والأهواء الشيطانية فإن هذا يعني الانهزام، سواء حدث الانتصار في الظاهر أو لم يحدث. (منهجية الثورة الإسلامية، ص 476 و477)
التسديد الإلهي
المدد الغيبي إيمان راسخ عند الإمام الخميني(قده)، والتسديد الإلهي حاضر في كل محطات الثورة ومستمر بإذنه تعالى، وإنما تحققت الإنجازات والنجاحات بتوفيق الله تعالى وحصول المدد الغيبي.
"فقد امتدت يد الغيب، وتجلت العناية الإلهية، فجعلت شعباً لا يمتلك شيئاً يغلب قوى تمتلك كل شيء، وكانت تلك قدرة صدر الإسلام التي مكنت عدة من العرب الذين لا يمتلكون شيئاً، فكل جماعة منهم بسيف، وكل جماعة ببعير، يغلبون كل المعمورة تقريباً في ذلك الوقت، وهزمت قوة مملكتي إيران والروم، وما كان هذا إلا بقدرة إلهية وتأييد غيبي". (صحيفة الإمام، ج 8 ث 193)
طروحات جديدة
الاستضعاف والاستكبار
حرص الإمام الخميني(قده) على استخدام عدد من المصطلحات والعناوين الإسلامية الأصيلة، ليوجه الجمهور نحو الأهداف السليمة، اقتداء بالمضمون المختزن لهذه المصطلحات.
استخدم الإمام مصطلحي: الاستضعاف والاستكبار، وتبعاً لهما مصطلحي المستضعفين والمستكبرين، فالمستضعف هو المؤمن، صاحب الحق، الذي لا يمتلك الإمكانات الكافية للمواجهة، والذي يتحمل أعباء التضحية بسبب الظلم اللاحق به من المستكبر. والمستكبر هو المتسلط على جماعة من الناس، من موقع المسؤول أو الحاكم أو الزعيم أو الدولة، فيظلمهم، ويسلبهم حقوقهم، ويستخدم ضدهم وسائل القمع المختلفة لمنعهم من المطالبة بحقوقهم أو الحصول عليها.
شرح الإمام الخميني(قده) مفهومي المستضعفين والمستكبرين، فقال:.. إن المستكبرين لا ينحصرون بالسلاطين، لا ينحصرون برؤساء الدول، لا ينحصرون بالحكومات الظالمة، بل للمستكبرين معنى أعم من ذلك، وأحد مصاديقه هم الأجانب حيث يستضعفون الشعوب ويتعدون عليها ويظلمونها. ومن مصاديقه أيضاً هذه الحكومات الجائرة والملوك الظلمة الذين يستضعفون شعوبهم ويظلمونها، وكنتم مبتلين بذلك على مدى أكثر من خمسين عاماً وكنا نحن مبتلين أيضاً وجميع الشعب كان مبتلياً بذلك... إنكم إذا استضعفتم الذي تحت سلطتكم وتعديتم عليه ـ لا سمح الله ـ وظلمتموهم تصبحون مستكبرين أيضاً، ويكون الذين تحت سلطتكم مستضعفين، فلا بد أن نرى كيف سنخرج من هذا الامتحان، كيف سنخرج من بوتقة هذا الاختبار؟ هل سنخرج مرفوعي الرؤوس أم منكسي الرؤوس؟ هل سنتعامل مع عباد الله بالشكل الذي أمرنا الله تبارك وتعالى به؟ الآن وقد أصبحنا أحراراً، فهل سنتخذ الحرية وسيلة لخدمة الخالق والمخلوق، أم نجعلها وسيلة لمخالفة الله والاستكبار على الناس؟ (صحيفة الإمام، ج7 ث 350 و351) مبيناً وجود المستضعفين والمستكبرين على طرفي نقيض، فالمستكبرون هم الظالمون المنحرفون المستبدون، والمستضعفون هم المستقلون الأحرار المؤمنون، الذين يخضعون لامتحان الجدارة، فلا هم ينحرفون، ولا يستخدمون مكتسباتهم في الظلم والعدوان.
ثم يبين الإمام الخميني(قده) الفرق بين الضعيف والمستضعف: إن قضية الاستضعاف هي هذه، وليس ما يقول عنهم الله: الضعفاء. المستضعفون هم الذين لديهم قوة الإيمان، ولكن أولئك لا يدركون ويقولون إنهم ضعفاء، وهم ليسوا من الضعفاء، فبعض الذين لا يفهمون معنى كلمة المستضعف يقولون لماذا يجب أن نكون مستضعفين وهؤلاء يعتبروننا مستضعفين وضعفاء! في حين ليس معنى ذلك أنكم ضعفاء! إن لديكم قوة الإيمان والرغبة بالاستشهاد، وأنتم الذين هزمتم مثل تلك القوة بقبضاتكم. (إن الاستضعاف هو أنه لم يكن يحسب لكم أي حساب)
عناوين تعبوية
استخدم الامام مصطلح الشيطان الأكبر، وهو يقصد أمريكا المتفردة بالسيطرة على العالم ظلماً وعدواناً مقارباً بهذا المصطلح ما يفعله الحاج إلى بيت الله الحرام حيث يرمي الجمرات الثلاث في منى، وبينها الجمرة الكبرى جمرة العقبة، وهي الرمز للشيطان الأكبر الذي يمتلك قدرات كبيرة للوسوسة والزينة والإضلال، فأمريكا بضلالها وإمكاناتها وسيطرتها على العالم شيطان أكبر.
ودعا الإمام إلى تسمية عدد من مناسبات أيام السنة بأسماء تربط الناس برمزية هذه الأيام:
فيوم القدس هو يوم الجمعة الأخيرة من شهر رمضان المبارك، والذي يقع في ليلة من ليالي القدس، كرمزية لقدسية المسجد الأقصى وما حوله، ليتحرك المسلمون لنصرته ودعمه وتحريره.
ويوم الحرس هو يوم ولادة الإمام الحسين(ع) في الثالث من شهر شعبان، كرمزية للتضحية العظيمة التي قدمها الإمام الحسين(ع) في مواجهة الحاكم الظالم يزيد.
ويوم المستضعفين هو يوم ولادة الإمام المهدي(عج) في الخامس عشر من شهر شعبان، المخلص هو الذي يظهر في آخر الزمان فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً، ما يجعل الارتباط بهذا اليوم ارتباطاً بالأمل والتغيير نحو سعادة البشرية، من دون التوقف عند الصعوبات التي لن تقف أمام طريق النصر.
ويوم المرأة المسلمة هو يوم ولادة السيدة فاطمة الزهراء(ع) في العشرين من جمادى الثاني، يوم ولادة الإنسانة الكاملة التي هي قدوة النساء والرجال، فالنظر إلى هذا اليوم والاقتداء بصاحبته يحدثان تغييراً في واقع الأمة، بسبب فرادة النموذج، وحاجة المجتمع وخاصة النساء لهذا الرمز العظيم في ممارساتهن اليومية.
وأسبوع الوحدة الإسلامية هو أسبوع ولادة النبي الأكرم(ص) الذي يجمع تاريخي الولادة عند المذهبين السني والشيعي، أي ما بين 12 ربيع الأول و17 ربيع الأول، فنحوّل الاختلاف إلى عنوان وحدوي جامع.
هذه المصطلحات والمفردات تؤدي وظيفة تربوية هامة، وتوضح الأبعاد التي يريدها الإسلام في شخصية المسلم، ما يساعد على نمط في القدوة الحسنة والشعارات الإيجابية التي تنعكس على حياتنا ومفرداتنا اليومية وأدائنا.
المسائل المستحدثة
فتح الاجتهاد الباب على مصراعيه لمعالجة الأسئلة المستجدة، ومواكبة تطورات الزمان وخصوصيات المكان، بما يؤكد قدرة الشريعة الإسلامية على مواكبة الحياة في كل زمان ومكان. وكما أصبح معلوماً، ففي الإسلام الاحكام الثابتة والمتغيرة، أما الثابتة فمرتبطة بثبات الفطرة الإنسانية وثبات الاحكام المختصة بها، وأما المتغيرة فمرتبطة بالظروف والمناسبات التي تتبدل وتتغير، وهذا ما يتكفل به الاجتهاد، وهو في الواقع تجديد يتناسب مع العصر.
وقد خصص الإمام الخميني(قده) فصلاً كاملاً من الجزء الثاني من تحرير الوسيلة عالج فيه الأحكام الشرعية للمسائل المطروحة حديثاً.