علماء قدوة
علماء قدوة
إعداد هيئة التحرير
تاريخ العلماء حافل بالقصص والمآثر والعبر ... وقصص العلماء زاخرة بالأخلاق والمثل العليا وهي بذلك تذكرنا بعظمتهم وجلالة قدرهم وأنهم أسوة لنا وقدوة
زكاة العلم
عن رسول الله أنه قال: «زكاة العلم تعليمه من لا يعلمه»
وعن الإمام الكاظم ع : «من أوجب حق أخيك أن لا تكتمه شيئاً ينفعه لا من دنياه ولا من آخرته»
فالعلم ليس تشريفاً فقط وإنما هو مسؤولية وتكليف وإدراكاً لأهمية دور القلم في بث العلم ونشر المعرفة، بادر علماؤنا الأخيار لتحمل مسؤولياتهم المبدئية في هذا المجال، وأثروا حركة الفكر البشري بإنتاجهم العلمي الغزير، في مختلف مجالات المعرفة والحياة.
ورغم أن بعضهم كان يعيش ظروفاً بالغة القسوة، وكانت تواجهه الصعوبات والعقبات، إلا أن الهمة العالية، وروح التضحية والعطاء، وأخلاقية المثابرة والاجتهاد، كل ذلك كان حافزاً لتجاوز التحديات والمعوقات.
والخطابة هي جسر تواصل العالم مع الجمهور وعامة الناس وفي تاريخنا علماء فطاحل مارسوا الوعظ والإرشاد الجماهيري فكان لذلك أعظم الأثر في مجتمعاتهم كالمحقق الشيخ جعفر الشوشتري (رحمه الله) (ت 1303هـ) الذي يقول عنه السيد الأمين: كان عالماً من أعلام العلماء فقيهاً واعظاً، له شهرة واسعة، واشتهر بالوعظ والخطابة، وكانت تجتمع الألوف تحت منبره لسماع مواعظه.. رجع إلى بلده تستر في إيران رئيساً مطاعاً مرجعاً في التقليد والأحكام، وأخذ في الوعظ في شهر رمضان وغيره، ونبغ في ذلك بحيث لم يعهد له نظير، وترتب على وجوده آثار جليلة.. وحصل من وعظه هداية كثير من الناس.
الإمام البروجردي (قده) وتحمّل المسؤولية
من طليعة العلماء المصلحين في هذا العصر الإمام البروجردي (رحمه الله)(ت1961)
وهو واحد من أهم مراجع الشيعة ، لجهة قوة زعامته ومرجعيته. وهو الى جانب دوره الكبير في التقريب بين المسلمين فقد تصدّى للقيام بالمسؤولية حيث ينبغي ومن جملة ذلك:
_ حين قررت حكومة الشاه استبدال الخط العربي والحروف العربية بالخط اللاتيني في الكتابة، كما صنع كمال أتاتورك في تركيا، اتخذ الإمام البروجردي موقفاً مضاداً حال دون ذلك، وكان يقول: "إن هدف هؤلاء من تغيير الخط إبعاد مجتمعنا عن الثقافة الإسلامية ومادمت موجوداً لا أسمح بتحقيق ذلك"
_ قام بجهد فاعل للوقوف أمام حركة (البهائية) في إيران، بتكثيف حركة التوعية ضد توجهاتهم، والضغط على الحكومة لتقليص أنشطتهم.
_ وقف إلى جانب المرجع السيد حسين القمي في مطالبته للشاه بمنع الخمور، وإلغاء قانون منع
الحجاب، وإلغاء قانون تغيير الزي الشعبي، وهدد بالزحف إلى طهران إن لم تستجب الدولة لهذه المطالب الشرعية، فاضطرت حكومة الشاه إلى الرضوخ.
وأرادت حكومة الشاه إقامة احتفالات بيوم المرأة تتضمن إخراج طالبات المدارس سافرات لمسيرة استعراضية، فاحتج السيد البروجردي على ذلك بقوة وألغى ذلك البرنامج.
ومن الإنجازات الهامة لمرجعيته التصدي لإقامة المراكز الإسلامية في الدول الغربية، حيث أشاد مسجداً ضخماً ومركزاً في هامبورغ ألمانيا، وبعث أحد العلماء إلى هناك، كما أسس مركزاً في واشنطن أمريكا وأوفد أحد العلماء لإدارته، وعند وفاته كان لديه مخطط لإقامة مركز في اليابان وآخر في النمسا.
الملا هادي السبزواري والشيخ عباس القمي... عالم الدين وتواضع الذات
إن عالم الدين كسائر البشر، مخلوق في هذه الدنيا للابتلاء والامتحان من قبل الله تعالى، والامتحان الإلهي أساليبه ووسائله متنوعة، فقد يكون عبر إغداق النعم والخيرات، أو الإصابة بالشدائد والأزمات، يقول تعالى:﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ الأنبياء35
وكما يكون المال أو المنصب، أو الجمال مادة للامتحان، فكذلك تكون نعمة العلم مورداً للامتحان، وعلى أساس طريقة التعامل مع هذه النعمة تتقرر درجة العبد عند الله تعالى.
وهناك نصوص دينية كثيرة تتحدث عن فضل العالم ومكانته، كقوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ الزمر 9.
ويحظى عالم الدين بكثير من التقدير والاحترام بين الناس وهذا أمر مطلوب، يدفع إليه العقل، ويأمر به الشرع، لأن ذلك مظهر لاحترام الدين والعلم.
لكن كل ذلك قد يعزز مشاعر الاعتزاز بالذات، والإحساس بالتميز كما قد يكون المال والثروة سبباً للانحراف والطغيان . لذا فان عالم الدين إذا توفر على رصيد كاف من تزكية النفس، يكون لديه مناعة وحصانة من مرض العجب والغرور، وسائر الأدواء الأخلاقية. لذا تؤكد النصوص الدينية على ضرورة تزكية النفس أولاً، خاصة بالنسبة لعالم الدين يقول تعالى: ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ الجمعة –2
يقول الإمام : «من نصب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومعلّم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومؤدبهم»
إن التربية الروحية تجعل نظرة الإنسان إلى نفسه أكثر واقعية وموضوعية، فكلما تقدم علمياً، أدرك
عمق المعرفة، وسعة آفاق العلم، وأدرك أن ما ناله من العلم ليس سوى نزر قليل ، فيسد بذلك منافذ العجب والغرور إلى نفسه، يقول الله تعالى: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ الإسراء 85
ينقل في سيرة العالم الفيلسوف الفقيه المعروف الملا هادي السبزواري (1212-1289هـ) صاحب المنظومة الفلسفية التي تدرّس في الحوزات العلمية، أنه ذهب إلى كرمان دون أن يعرفه أحد، ليبقى فيها مدة من الزمن فدخل المدرسة العلمية هناك، وطلب من المتوليّ للمدرسة غرفة، ولمّا لم يكن المتولي يعرفه سأله: هل أنت من العلماء؟ فأجابه: كلاّ. قال المتولي: إن الغرف مخصوصة لطلبة العلم، ولكنك تستطيع أن تبقى في غرفة خادم المدرسة لتساعده في أعمال الخدمة، فوافق على ذلك، وبقي كذلك حتى عرفوا شخصيته.
كما أن العالم المحدّث الكبير الشيخ عباس القمي (1294-1359هـ) صاحب المؤلفات الكثيرة المشهورة، لما ألف كتابه (الفوائد الرضوية في تراجم علماء الإمامية) ووصل إلى اسمه، كتب ما يلي: (حيث أن هذا الكتاب الشريف في بيان أحوال العلماء، لم أجد المناسب أن أترجم لنفسي إذ أني أحقر وأقل من أن أضع نفسي في عدادهم، ولذا أصرف النظر عن ترجمتي مكتفياً بذكر مؤلفاتي).
وكان أحد الفقهاء المراجع يكتب عند توقيعه: (تراب أقدام العلماء)، كما انه متداول عند كثير من العلماء أن يكتب عند توقيعه (الأقل) أو (الأحقر). هكذا يستكثر العالم المهذب لنفسه أن يعد نفسه عالماً، فضلاً عن أن يسيطر عليه العجب والغرور، أو يتباهى بعلمه.
الشيخ البهائي براعة في العلم ونزوع نحو الحرية
محمد بن حسين بن عبد الصمد العاملي هـ1030 -953
جمع في شخصيته ما لا يجتمع آحاده في بعض العلماء فهو كما قال بعض الباحثين «فقيه مع الفقهاء ومحدث مع المحدثين وصوفي مع المتصوفة وفيلسوف مع الفلاسفة ورياضي مع أصحاب التعليم وهو نحوي مع النحاة إلى غير ذلك. وهو ايضا فلكي من كبار الفلكيين، ومهندس تشهد له آثاره الباقية على براعته في هذا الفن .
الملاحظ لحياة الشيخ البهائي يجد في نفسه نزوعا نحو التحرر من قيود المجتمع
والمحيط، وتطلعا لأن يعيش بعيدا عن اشتراطات المناصب والمقامات الاجتماعية،
تلك التي تفرض على البعض أن يحيا غير حياته، فيكون مبتهج الظاهر بائس الباطن.
إننا نجد أن ما نسب إلى الشيخ البهائي من التصوف والعزلة يصب في هذا المنحى،
وهكذا ما كان عليه من حب السفر والسياحة. وشعره وما تناوله من مواضيع مختلفة، يشير إلى تلك الروح التواقة للحرية والانعتاق.
فعكف سنين طويلة على تهذيب النفس ومجاهدتها، ونزع عوامل السيطرة والأبهة منها، ومن خلال تخليه عن البهارج الدنيوية روضها وقمع تطلعها حتى صارت تحت إرادته، ولم يكن طوع أمرها، واستعان في ذلك عليها بما ورد عن المعصومين عليهم السلام من أساليب التهجد والتبتل والخضوع لله عز وجل من الأدعية والمناجاة، والنوافل والصلوات، ثم أتم ذلك بتنكره وسياحته في عالم المسلمين، مستفيدا ومفيدا، متعلما ومرشدا، وخالط السوقة وعامة الناس حتى لا يشعر بتميزه عليه (مع أنه متميز على علمائهم ومتفوق)
وعلى مدى عقدين من الزمان وجدناه يتنكر، ولا يعرف شخصه بل يلبس ملابس الدراويش ويسافر إلى مناطق مختلفة من العالم الإسلامي، وقد نقل صاحب أعيان الشيعة خبر أسفاره إلى مصر والقدس ودمشق وحلب ومن ذلك قال:
وكان يجتمع مدة اقامته بمصر بالأستاذ محمد بن أبي الحسن البكري وكان الأستاذ يبالغ في تعظيمه فقال له مرة: يا مولانا انا درويش فقير فكيف تعظمني هذا التعظيم؟
قال شممت منك رائحة الفضل وامتدح الأستاذ بقصيدته المشهورة.
وحكى الرضي بن أبي اللطف المقدسي قال: ورد علينا من مصر رجل من مهابته محترم فنزل من بيت المقدس بفناء الحرم عليه سيماء الصلاح وقد اتسم بلباس السياح وقد تجنب الناس وأنس بالوحشة دون الإيناس وكان يألف من الحرم فناء المسجد الأقصى ولم يسند أحد مدة الإقامة إليه نقصا فألقي في روعي انه من كبار العلماء الأعاظم فما زلت لخاطره أتقرب ولما لا يرضيه أتجنب فإذا هو ممن يرحل إليه للأخذ منه وتشد له الرحال للرواية عنه يسمى بهاء الدين محمد الهمداني الحارثي فسألته عند ذلك القراءة عليه في بعض العلوم فقال بشرط أن يكون ذلك مكتوما وقرأت عليه شيئا من الهيئة والهندسة ثم سار إلى الشام قاصدا بلاد العجم وقد خفي عني امره واستعجم.
وقال المنيني: ولما ورد دمشق نزل بمحلة الخراب عند بعض تجارها الكبار واجتمع
به الحافظ الحسين الكربلائي القزويني والتبريزي نزيل دمشق بصاحب الروضات الذي
صنفه في مزارات تبريز واستنشده شيئا وكثيرا ما سمعت انه تطلب الاجتماع بالحسن
البوريني فأحضره له التاجر الذي كان عنده بدعوة وتأنق في الضيافة ودعا غالب فضلاء
محلته فلما حضر البوريني المجلس راى فيه البهائي بهيئة السياح وهو في صدر
المجلس والجماعة محدقون به وهم متأدبون غاية التأدب فعجب البوريني من ذلك وكان لا يعرفه ولم يسمع به فلم يعبأ به ونحاه عن مجلسه وجلس غير ملتفت إليه وشرع على عادته في بث دقائقه ومعارفه إلى أن صلوا العشاء ثم جلسوا فابتدر البهاء في نقل بعض المناسبات وأخذ في الأبحاث فأورد بحثا في التفسير عويصا فتكلم عليه بعبارة سهلة فهمها الجماعة كلهم, ثم دقق في التعبير حتى لم يبق من يفهم ما يقول الا البوريني, ثم اغمض في العبارة فبقي الجماعة كلهم والبوريني معهم صموتا جمودا لا يدرون ما يقول غير أنهم يسمعون تراكيب واعتراضات وأجوبة تأخذ بالألباب, فعندها نهض البوريني واقفا على قدميه فقال إن كان ولا بد فأنت البهاء الحارثي إذ لا أحد اليوم بهذه المثابة الا هو فاعتنقا وأخذا بعد ذلك في إيراد أنفس ما يحفظان وسأل البهاء من البوريني كتمان امره وافترقا تلك الليلة ثم لم يقم البهاء فاقلع إلى حلب.
الشيخ حسن المامقاني ونكران الذات
أتته الشهرة بعد الخمول، والغنى بعد الفقر، فزهد بالجاه والمال، وأخذ نفسه بالأسلوب الذي عاشه، وهو طالب فقير، ولم يخرج منه إلى الترف والملذات، والكبرياء والاستعلاء بل ازداد للناس تواضعاً، ومن الله خوفاً.
وكان يفرق على الفقراء والمحتاجين كل ما يصل إلى يده من أموال الحقوق، وكانت حياته بعد الرئاسة كما كانت قبلها، لم يتغير شيء من مأكله وملبسه ومسكنه، وسائر معاملاته، فكان يسكن في دار متواضعة بالإجار.
وكان بعض السادات في النجف ينال من كرامته، ولا ينفك عن إيذائه، ومع ذلك كان يبعث إليه بالأموال والصلات، وفي ذات يوم بلغه أن عليه ديوناً، وأن أربابها يضايقونه بالمطالبة، فوفاها عنه، وقال: إلهي أنت تعلم أن هذا السيد يسيء إليّ بدون سبب، وقد وصلته إيثاراً لمرضاتك على هواي.. هذي هي أخلاق أئمتنا الأطهار عليهم أفضل الصلوات، فقد روي أن الخريث بن راشد قال لأمير المؤمنين أيام خلافته: لا أأتم بك، ولن أشهد معك الصلاة، ولن أأتمر بأمرك، ولن يكون لك علي سلطان. فقال له الإمام: لك ذلك مع عطائك كاملاً، على شريطة أن لا تعتدي على أحد، فإن اعتديت عاقبتك بما تستحق.
وكان يقول الشيخ حسن عن المصالحة في الاموال المستحقة بالخمس: إن هذه المصالحة محرمة في الإسلام، لأنها تتنافى مع مصلحة تشريع الخمس والزكاة، وفيها تفويت لحق الفقراء، وإذا كان الفقيه ولياً عن الفقير في قبض المال فلا ولاية له في العفو والإبراء منه..
أما من تذرع بأن في المصالحة استنقاذاً لبعض الحق، وأن في تركها تفويتاً للجميع فرد عليه الشيخ حسن بأن هذه المصالحة إغراء بالجهل، حيث يعتقد من عليه الحق ببراءة ذمته، فلا يؤدي ما تبقى عليه.
وبكلمة لقد ابتعد هذا الشيخ الجليل عن الشبهات تماماً كما ابتعد عن الحرام البيّن، وتورع عن كل أسلوب يخشى معه على دينه وآخرته، من ذلك أن بعض التجار كان يمده بشيء من المال، وهو طالب، فكان الشيخ إذا التقى بهذا المحسن يتجاهله، ولا يسلم عليه، كي لا يظن أنه يتملقه، ويتقرب إليه طمعاً في دنياه، ولما علم المحسن ذلك من الشيخ عامله بالمثل، كي لا يظن الشيخ أنه يمن عليه بإحسانه.. لقد ابتغى كل ممن أعطى وأخذ أشرف المقاصد، وأنبل الغايات، فابتعد عما يدنس هذه الغاية النبيلة، والمقصد الشريف.