أحيوا أمرنا
أحيوا أمرنا
بسم الله الرحمن الرحيم
ورد عن الإمام الباقر وهو يخاطب الفضيل بن يسار - أحد أصحابه - ويقول له: ”يا فضيل! أتجلسون وتتحدثون؟“ قلتُ: بلى سيدي، قال: ”إنّي أحبّ تلك المجالس، فأحيوا فيها أمرنا، من جلس مجلسًا يحيا فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب.“
هنا يتبادر للذهن سؤال وهو: هل أنّ فكر أهل البيت قابلٌ للموت حتى يأمر الإمام بإحيائه؟! ما معنى قوله: ”فأحيوا فيها أمرنا“؟!
مع أنّ الله عزّ وجلّ يقول: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾، فنور أهل البيت الذي هو نور الله تبارك وتعالى يأبى الموت، يأبى العدم، يأبى المحو، فلماذا يأمر الإمام الباقر بإحيائه ؟
الجواب عن هذا السؤال بثلاثة وجوه
الوجه الأوّل: أنّ المراد بالحياة في هذا الحديث الحياة الحقيقية بمرتبة دون مرتبة
الفكر له حياة، كلّ فكر له حياة، ولكنّ الفكر قد يتعرّض للموت والموت له درجتان
1 موتٌ بمعنى الفناء
2 موتٌ بمعنى الهجر والإعراض
فكر أهل البيت لأنّه نور الله تبارك وتعالى يأبى الموت بمعنى الفناء والزوال، لا يمكن أن يموت فكرهم وهو نور الله تبارك وتعالى، لكنّ فكرهم قد يتعرّض للموت بمعنى الإهمال والهجر.
السلطة الأمويّة سعت إلى إماتة فكر أهل البيت بمعنى إهماله وهجره، أن يكون فكر أهل البيت مُهْمَلاً ومهجورًا بين المسلمين، وإن كان فكرهم موجودًا لكنّه مُهْمَلٌ مهجورٌ مُعْرَضٌ عنه.
سعت السلطة الأمويّة أن تهجر فكر علي حتى وصل الأمر إلى أنّ المحدّث إذا أراد أن يتحدّث عن علي قال: رُوِيَ عن أبي زينب أنّه قال كذا وكذا.. لئلا يُعْرَف مَنْ الذي يروي عنه ومَنْ الذي يتحدّث عنه، ووصل الأمر إلى ما يقول الإمام الصادق (ع) : ”خالفوهم فالرشد في خلافهم“، خلاف مَنْ؟
يعني علماء البلاط وقضاة الجور، ”خالفوهم فإنّ الرشد في خلافهم“ لماذا؟
الإمام نفسه الصادق(ع) يقول: ”لأنّهم دأبوا ألا يقول عليٌ بقول إلا وخالفوه إلى غيره“، تتبّعوا كلمات علي فخالفوها، تتبّعوا أقوال علي فخالفوها
فتراث علماء السلاطين، تراثهم تراثٌ بُنِيَت جذوره وأصوله على مخالفة فكر علي ، لذلك قال: ”خالفوهم فالرشد في خلافهم
من هنا يتبيّن أنّ الخطّة الأمويّة كانت: محو ذكر أهل البيت ومحو فكر أهل البيت بمعنى إهماله وهجره والإعراض عنه، فلا يتعاطاه المسلمون ولا يتبادله المسلمون، من هنا جاء هذا الحديث عن الإمام الباقر (ع) : ”أحيوا أمرنا“ أي تداولوه، وإذا تناقلتم فكرنا في المجالس تحوّل من درجة الإهمال والهجر إلى درجة الحياة الحقيقيّة فأصبح فكرًا رائجًا، متبادلاً عامرًا في المجالس والنوادي والمنابر، ”فأحيوا فيها أمرنا، من جلس مجلسًا يحيا فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب .
الوجه الثاني: أنّ المراد بالحياة الحياة الوجدانيّة «حياة القلوب»
يقول تعالى: ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾، القلب يعمى، والمراد بعمى القلب وموت القلب ألا يصبح الإنسان ذا بصيرة، حتى المؤمن، المؤمن قسمان:
1 مؤمنٌ ذو بصيرة 2 ومؤمنٌ ليس ذا بصيرة
صاحب البصيرة هو الإنسان الذي عرف من أين وفي أين وإلى أين ، هل هو يمشي في طريق الصواب أم يمشي في متاهةٍ وتخبّطٍ ؟!
إذا عرف المؤمن أنّ طريقه الذي يمشي فيه صوابٌ مستقيمٌ فهو ذو بصيرة، متى ما عرف الإنسان طريقه «أنّني أمشي على طبق طاعة الله، وعلى طبق درب الله، وأنّ نهايتي إن شاء الله هي نهاية أولياء الله، لأنّني أمشي على دربٍ يرضي الله تبارك وتعالى»
إذا عرف الإنسان طريقه عرف خاتمته، وإذا عرف خاتمته عرف بدايته، وأنّه اختاره الله تعالى لهذا الطريق، طريق الله ودرب الله، فهذا الإنسان ذو بصيرة
يوم عاشوراء قال عمرو بن الحجّاج الزبيدي لعمر بن سعد: ”أتدرون من تقاتلون؟! إنّما تقاتلون فرسان المِصْرِ وأهل البصائر“
هؤلاء لا يقاتلون عن تخبّط، عرفوا طريقهم فعرفوا خاتمتهم فعرفوا بدايتهم فساروا في الطريق باطمئنان وثبات واستقرار وصمود
﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا﴾
فالمراد من قوله : ”فأحيوا فيها أمرنا“ يعني أحيوا قلوبكم بأمرنا، الحياة القلبيّة، الحياة الوجدانيّة، فكرنا لا يحتاج إلى أن تحيوه، إنّما قلوبكم هي التي تحتاج إلى الحياة، ” وإلا فأمرنا حيٌّ ظاهرٌ واضحٌ لا يحتاج إلى إحياء، الذي يحتاج إلى الحياة هو قلوبكم الميّتة، قلوبكم غير المبصرة هي التي تحتاج إلى نورنا
ويؤيّد هذا المعنى ذيل الرواية: ”من جلس مجلسًا يحيا فيه أمرنا لم يمت قلبه
الوجه الثالث: أنّ المراد بالحياة الحياة الاعتباريّة
والمقصود بالحياة الاعتباريّة الحياة الإعلاميّة
يعني مثلاً: إذا جاء السلطان أو الملك إلى بلد ووضعوا الأعلام لاستقباله واللافتات المختلفة التي تُظْهِرُ الولاءَ وتُظْهِرُ التأييدَ لقدومه،.. هذا نوع من الحياة، إحياءٌ لاسمه ولذكره، لكنّها حياةٌ اعتباريّة، يعني حياة مجازيّة، ربّما يترتّب عليها أثرٌ وربّما لا يترتّب عليها أثرٌ، هذه الحياة الإعلاميّة أثرها أنّ الأجيال ترثها، فتبقى على هذا النهج ، وتبقى على هذا الخطّ.
الحياة الإعلاميّة وإن كانت حياةً مجازيّةً اعتباريّةً لكنّها تؤثّر على أنفس الأجيال، تؤثّر على قلوب الأجيال التي ترث هذا التراث، التي ترث هذا الإعلام إلى أن يبقى عندها فتستمرّ عليه.
من المُحْتَمَل أن يكون المقصود بقوله : ”فأحيوا فيها أمرنا“ الحياة الإعلاميّة، يعني قوموا بوسائل إعلاميّة مختلفة لإبراز أمرنا وإبراز ذكرنا
الإمام الباقر(ع) أوصى بعد موته أن تندبه عشر جواري بمنى أيام منى
يجلسن على قارعة الطريق والنّاس تدخل إلى منى فيندبن الإمام الباقر (ع) ، هذه حياة إعلاميّة، الأئمة عندما فتحوا المجالس واستقبلوا الشعراء والمعزّين واستقبل الصادق (ع) ذا الرمّة وقال: أنشدني في جدّي الحسين، فقال:
امرر على جدث الحسين وقل لأعظمه الزكيّة
يا أعظمًا لا زلتِ من وطفاء ساكبةً رويّة
وابكِ المطهّر للمطهر والمطهرة النقيّة
كبكاء معولةٍ دنت يومًا لواحدها المنيّة
استقبال الشعراء، إقامة المآتم، إقامة المجالس.. حياةٌ إعلاميّةٌ صاخبةٌ أثرها أنّ الأجيال ترث هذا الإعلام وترث هذه الشعارات وترث هذه العناوين إلى أن تحوّلها إلى خطّةٍ وعملٍ ومنهجٍ تبقى عليه وتستمرّ عليه.
إذن قول الإمام الباقر يحتمل الحياة الحقيقيّة، ويحتمل الحياة الوجدانيّة، ويحتمل الحياة الاعتباريّة الإعلاميّة، ويحتمل جميع المعاني التي تعرّضنا إليها في شرح هذا الحديث الشريف
فوائد تترتّب على هذا الحديث
الفائدة الأولى
ما هو السرّ في رجحان تلك المجالس ومحبوبيّة تلك المجالس؟
السرّ فيها أنّ فيها ذكر أهل البيت (ع) ، المجلس الذي ينصهر بالأحاديث الدنيويّة، وبالحديث في الغيبة والقيل والقال... مجالس ميّتة ممقوتة
ولذلك ورد في الدّعاء: ”أم رأيتني آلف مجالس البطّالين فبيني وبينهم خلّيتني“ مجالس البطّالين هي مجالس الموت، المجالس التي ليس فيها حياة للقلب، ولا ترقيقٌ للرّوح، ليس فيها ربطٌ روحيٌّ بين الروح وبين الله تبارك وتعالى.
الفائدة الثانية
«مجلس» في علم النحو اسم مكان، يعني مكانٌ يُجْلَس فيه
فالمجلس له خصوصيّة إذا أراد حياة القلب، فعليه أن يجلس مجلسنا، المجلس العامر بالنّاس الذين يحيون ذكرنا ويحيون فكرنا، المآتم، المواكب.. هذه هي مجلسنا، حياة القلب بحضور مجالسهم، فهي موائدهم النيّرة المعطاءة.
إنّما أُكْتَب في أنصار الحسين إذا حصرتُ مجالس الحسين وعمرتُها بحضوري ومشاركتي.
الفائدة الثالثة
قال: ”يوم تموت القلوب“، ما المقصود «يوم تموت القلوب»؟
المقصود يوم القيامة، لكن ما معنى «يوم القيامة تموت القلوب»؟!
القلوب يوم القيامة حيّةٌ؛ لأنّه يوم الشهود، فكيف تموت القلوب؟!
موت القلب بالخوف، أعظم نعمة أنعم الله بها على الإنسان: الأمن النفسي، يعني الاطمئنان والهدوء
القلق هو موت القلب، والاطمئنان والهدوء هو حياة القلب، ولذلك ركّز القرآن على الاطمئنان لأنّه حياة القلب ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾
ويقول تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً﴾ هذه هي النفس الحيّة
ويقول تعالى: ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ يعيشون اطمئنانًا وهدوءً وثباتًا
أعظم نعمة هي حياة القلب، وحياة القلب هي الأمن والاطمئنان، الأمن في الدنيا والأمن في الآخرة، فماذا يفيد إذا كنتُ في الدنيا آمنًا ولكنّني في الآخرة قلقٌ خائفٌ؟!
الأمن الحقيقي الأمن يوم الخوف، فموت القلوب هو الخوف والقلق الذريع الذي يصيب القلب إذا قامت الساعة،
والحياة أن تقوم الساعة وأنت مطمئنٌ بالحسين (ع) ”اللهم اجعلني عندك وجيهًا بالحسين، اللهم اجعل لي قدم صدقٍ عندك مع الحسين وأصحاب الحسين الذين بذلوا مهجهم دون الحسين.
وفي رواية أخرى: ”كلّ عينٍ باكيةٌ يوم القيامة إلا ثلاث: عينٌ بكت من خشية الله، وعينٌ غضّت عن محارم الله، وعينٌ بكت على أبي عبد الله“
المشاركة في البكاء إحياءٌ لأمر أهل البيت، وإحياء أمر أهل البيت حياةٌ للقلب وحياةٌ للاطمئنان والهدوء والثبات في القلب، ”لم يمت قلبه يوم تموت القلوب
وهذا موسم محرّم يقبل علينا ووظيفتنا ومسؤوليتنا إحياء أمر أهل البيت بإعمار المجالس والمواكب والنوادي وجميع ما يرتبط بأهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم بمختلف ما عندنا من طاقات وقدرات ووسائل، الذي يقوم بأدنى خدمةٍ في هذه الأيام يفوز بالظفر الحسيني، ويُحْشَر إن شاء الله مع الحسين وأنصار الحسين، ولكن بشرط الإخلاص؛ لأنّ خدمة الحسين عبادة، والعبادة مشروطةٌ بالإخلاص، ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ الإخلاص بمعنى أن يقصد التقرّب إلى الله تبارك وتعالى، ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا﴾
الخطيب، المستمع، المأتم.. كلّ من يشارك في خدمة الحسين وإحياء أمر الحسين متى ما قصد التنافس ومتى ما قصد المغالبة ومتى ما قصد البروز ومتى ما قصد أن يظهر اسمه وعنوانه فقد أحبط عمله، ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا﴾، ﴿كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء﴾
إذن علينا أن نطلب الحياة الحقيقيّة لقلوبنا بأن نعمرها في هذه الأيام العظيمة بذكر الحسين وبخدمة الحسين وبنصرة الحسين ، إن لم يجبك بدني عند استغاثتك ولساني عند استنصارك فقد أجابك قلبي وسمعي وبصري يا أبا عبد الله
_ من محاضرة للسيد منير الخباز بتصرف واختصار